اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٥ تموز ٢٠٢٥
لم يكن يخطر ببال محمد الخطيب، الذي اضطر للنزوح مع زوجته وأبنائه الخمسة إلى مركز إيواء غرب مدينة غزة، أن يصبح صيف هذا العام أحد أسوأ الفصول التي تمرّ عليه منذ بدء الاحتلال حرب الإبادة في أكتوبر 2023.
كانت نيران الحرب وحدها كافية لتكسر ظهر العائلات، لكنّ ما فاقم آلامهم هو ما جرّته الحرب من كوارث صامتة، لم تفلح صرخات الاستغاثة حتى اللحظة في دفعها بعيدًا.
بين خيام النازحين ومراكز الإيواء المؤقتة، تفوح رائحة القمامة المكدّسة، وتتسلّل مياه الصرف الصحي بين الأزقّة الضيقة لتصنع بِرَكًا آسنة باتت موطِنًا لتكاثر الحشرات والقوارض. ولا يملك سكان هذه المخيمات من حيلة سوى التكيّف القسري مع هذا الواقع، وسط انقطاع الوقود الذي شلّ قدرة البلديات على جمع النفايات ومعالجة مياه الصرف.
أعلنت بلدية غزة قبل أيام أنّ كمية النفايات المتراكمة في شوارع المدينة تجاوزت 250 ألف طن، مع عجز الطواقم البلدية عن الوصول إلى المكبّات الرسمية أو توفير الوقود اللازم لتشغيل مركبات جمع القمامة. ومع استمرار الحصار وتضييق الخناق، باتت النفايات تتكدّس عند أسوار مراكز الإيواء، حيث تقيم آلاف العائلات الهاربة من الموت إلى خيام عارية إلا من قسوة الحر.
في مركز الإيواء الذي يعيش فيه محمد الخطيب، يبدو المشهد كئيبًا بكل تفاصيله. يقول بصوت منهك لصحيفة 'فلسطين': «هذا الصيف زاد من مأساتنا في هذه الحرب. إلى جانب الجوع والعطش، اجتمعت علينا الحشرات الناقلة للأمراض والبعوض والذباب الذي لا يغادر الغرفة ليلًا ونهارًا. لا نستطيع أن نرتاح حتى ساعة، أطفالنا ينامون على أصوات الحشرات تلسعهم، والروائح الكريهة تخنقنا».
يشير الخطيب إلى أن المياه الملوّثة الناتجة عن فيضان الصرف الصحي تختلط بالنفايات، لتخلق بيئة مثالية للجراثيم والحشرات: «هذه البرك القذرة هي نتيجة تراكم القمامة عند أسوار المركز، البلدية لا تستطيع جمعها لأن طواقمها ممنوعة من العمل، ولا يوجد وقود لتشغيل الشاحنات والآليات. نحن نعيش وسط النفايات ومستنقعات الصرف الصحي».
غير بعيد عن مركز الإيواء، في منطقة الشاطئ الشمالي، يقيم عاصم الكحلوت مع أسرته الصغيرة في خيمة لم تعد تحميهم من شيء، سوى اسمها. يقف أمامها كل صباح، يحاول طرد البعوض والذباب الذي يغزو المكان وكأنّه جزء من المشهد الحربي.
يقول عاصم بمرارة: «ارتفاع درجات الحرارة قلب حياتنا إلى جحيم حقيقي. لا نستطيع الاحتماء من الشمس ولا من الحشرات. البعوض والحشرات الغريبة تنتشر في كل مكان بسبب أكوام القمامة الراكدة ومياه الصرف الصحي التي لم تعد تجد طريقها إلى مكبّات البلدية المعطّلة».
يحاول عاصم جاهدًا أن يجد مكانًا آخر ينقل فيه خيمته، لكن كثافة النزوح جعلت غرب غزة كمدينة خيام مكتظة بالبشر والأوجاع: «أبحث كل يوم عن مكان أنظف لكن لا أجد. المنطقة كلها تحوّلت إلى مستنقع قذر. لا ماء نظيف، ولا هواء نقي، والحشرات زادت الأمراض. لا حول لنا ولا قوة.».
أمّا الحاج أبو ياسر غراب، فقد اختار البقاء قريبًا من منزله المهدّم، علّه يجد في ذلك عزاءً ما. لكنه لم يعلم أن خيمته المتواضعة ستتحوّل إلى مزار لكلّ أنواع الحشرات والقوارض، مع ارتفاع حرارة الصيف التي كشفت المستور من كارثة بيئية تهدّد حياة الجميع.
يقول الحاج أبو ياسر بصوت متقطّع: «بعدما قصف الاحتلال بيتي، نصبت خيمة قربه حتى لا أبتعد عن ذكرياتي التي صارت تحت الركام. لكن الخيمة أصبحت موطنًا للفئران والبعوض والذباب. الروائح لا تُحتمل، والقمامة تتراكم من حولنا. طواقم البلدية غير قادرة على رفعها بسبب نقص الوقود والحصار. حتى مياه الصرف الصحي تفيض من تحت الأرض، فتزيد الوضع سوءًا».
يتنهّد أبو ياسر وهو ينظر إلى ما تبقى من منزله: «ما يزيد الطين بلّة هو عجزنا عن فعل أي شيء. ننتظر فقط أن تنتهي هذه الحرب المجنونة، لعلّنا نحاول أن نعيش من جديد. لا أحد يتحمّل هذا العذاب. أطفالنا مرضى بالحشرات والجراثيم، ومع ذلك لا نملك حتى الماء النظيف».
مع بداية فصل الصيف، ترتفع درجات الحرارة لتزيد من تفاقم الأزمة الصحية. مياه الشرب قليلة ومياه الصرف الصحي منتشرة في الأحياء، والقمامة لا تجد من ينقلها. والأخطر من ذلك هو انتقال الأمراض بفعل الحشرات والقوارض، وسط غياب أبسط خدمات البلديات، التي أعلنت بشكل واضح عجزها عن العمل دون الوقود.
يحذّر أطباء محليون من تفشّي الأمراض الجلدية وأمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى أمراض معوية خطيرة، نتيجة اختلاط النفايات بمياه الشرب والتلامس المستمر مع الحشرات.
منظمات دولية مثل «أونروا» حذّرت بدورها من «عواقب صحية وخيمة» إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، مشيرة إلى أن انتشار الأوبئة في مراكز الإيواء والمخيّمات مسألة وقت فقط.
رغم المناشدات العاجلة التي وجّهتها بلديات غزة إلى المنظمات الدولية لإدخال الوقود وتشغيل الآليات، لا تزال شاحنات النفايات متوقفة، ولا يزال المواطنون وحدهم في مواجهة كارثة بيئية صامتة.
يقول محمد الخطيب وهو يربت على رأس أصغر أبنائه: «لا نريد شيئًا.. فقط اجمعوا القمامة وصيانة الصرف الصحي، قبل أن نموت ببطء في هذا الصيف القاتل».
من خيمته في الشاطئ، يردّد عاصم الكحلوت العبارة نفسها: «ما نحتاجه أبسط مما يتصور العالم، قليل من الوقود ليعملوا ويزيلوا عنا هذا العذاب. هذا الحصار يقتلنا بصمت».
وأما الحاج أبو ياسر فيختم حديثه والدمعة في عينيه: «نريد أن نعيش بكرامة. هذه خيامنا تشهد أننا لا نملك سوى الصبر، لكن للصبر حدود حين يتحوّل النفايات والجراثيم إلى موت يحوم حول أطفالنا».