تقرير فشل الآليَّة الأمريكيَّة لتوزيع المساعدات يفجِّر دعوات للعودة إلى المسار الأمميِّ

بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به آلية توزيع المساعدات 'المشبوهة'، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بالتنسيق مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تصاعدت الدعوات المطالبة بإلغاء هذه الآلية، والعودة إلى المسارات الإنسانية الأممية المعروفة، التي تضمن إيصال المساعدات بكرامة وأمان لسكان قطاع غزة المحاصر.

وتُعد هذه الآلية خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يُلزم سلطة الاحتلال بمنع تفشي المجاعة في صفوف السكان الواقعين تحت سيطرتها، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون تعريض أرواح المدنيين للخطر أو الإذلال.

وأكد حقوقيون وخبراء في القانون الدولي أن النموذج القائم حاليًا لتوزيع المساعدات يمثل حالة غير مسبوقة من تسييس العمل الإنساني، وتحويله إلى أداة ضغط عسكري وسكاني، من خلال فرض نقاط توزيع محددة تجبر المدنيين على النزوح القسري نحو مناطق غالبًا ما تكون غير آمنة أو خاضعة لرقابة أمنية مشددة.

كما حذّرت منظمات دولية من أن استمرار هذه الآلية يهدد بتقويض دور المؤسسات الأممية، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ويُعزّز منطق البدائل المشروطة، التي تُخضع المساعدات الإنسانية لاعتبارات أمنية وسياسية بدلًا من تقديمها وفق مبادئ الحيادية والاستقلالية.

ومع فشل الآلية، يتعاظم الإجماع المحلي والدولي على أن الحل الوحيد يكمن في تمكين المنظمات الأممية من استعادة دورها الكامل، بعيدًا عن عسكرة المساعدات أو تسليمها لشركات خاصة ذات طابع عسكري، لما في ذلك من تهديد مباشر للسلم الأهلي، ومخالفة فاضحة لأبسط المبادئ الإنسانية.

من جهته، أكد صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني 'حشد'، أن ما جرى خلال عملية توزيع المساعدات الأمريكية والإسرائيلية في مدينة رفح، وما رافقها من فوضى وانهيار أمني وفقدان للسيطرة، يُجسّد ما سبق أن حذّرت منه الهيئة ومكونات المجتمع الفلسطيني والمنظمات الدولية.

وقال عبد العاطي لصحيفة 'فلسطين' إن 'مشاهد التدافع في مركزي توزيع المساعدات في منطقتي (محور ميراج) وتل السلطان، وسط وجود عشرات الآلاف من المواطنين الجوعى، تعكس إخفاق الخطة الأمريكية-الإسرائيلية في تلبية المعايير الإنسانية والقانون الدولي، وتكشف عن عسكرة واضحة للمساعدات وتحويلها إلى أداة للهيمنة الأمنية'.

وأوضح أن الخطة الجديدة، التي تُديرها شركات أمنية خاصة بمشاركة ضباط احتياط إسرائيليين، وجنود أمريكيين، ورجال أعمال، تُشكّل تهديدًا مباشرًا لوكالة 'أونروا'، وتسعى لتكريس واقع ميداني بعيد عن المبادئ الإنسانية والحيادية.

وأشار إلى أن عمليات توزيع المساعدات جرت في ظل غياب الحد الأدنى من التنظيم وطول فترات الانتظار، ما أدى إلى حالة من الغضب الشعبي والتدافع، في وقت يتواصل فيه الحصار والتجويع للسكان منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وسط مجاعة كارثية تهدد حياة مئات الآلاف.

وكشف عبد العاطي أن المسلحين التابعين للشركة الأمريكية فقدوا السيطرة على الموقع، وأطلقوا النار داخله، ما استدعى تدخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي قام بدوره بإطلاق النار واعتقال عدد من المواطنين، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات.

وأضاف أن المساعدات التي وُزعت تبين لاحقًا أنها مسروقة من مؤسسة دولية، بعد أن استولت عليها قوات الاحتلال ومنحتها للشركة الأمنية الخاصة، في ما وصفه بـ'فضيحة دولية تتطلب تدخلاً عاجلًا من المجتمع الدولي'.

ودعا عبد العاطي إلى رفض عسكرة المساعدات الإنسانية، وضمان تدفقها عبر المنظمات الدولية المختصة بعيدًا عن تدخلات الاحتلال، مطالبًا بوقف استخدام 'سلاح التجويع' كأداة للضغط على سكان غزة، معتبرًا أن ما يحدث هو امتداد لجريمة الإبادة الجماعية.

وحذّرت الهيئة، وفق عبد العاطي، من مغبة تعاون أي شركة محلية مع الشركة الأمنية الأمريكية، معتبرة ذلك 'تواطؤًا في جريمة الإبادة الجماعية وتوظيفًا سافرًا للتجويع ضمن مخططات الاحتلال الإسرائيلي'.

من جانبه، أكد الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم أن الآلية الحالية لتوزيع المساعدات في قطاع غزة تمثل خطرًا حقيقيًا، إذ تمنح شرعية ضمنية للعمليات العسكرية الإسرائيلية، وتحول العمل الإغاثي إلى أداة من أدوات الحرب.

وقال إبراهيم لـ'فلسطين' إن 'هذه الآلية لا تسعى إلى تخفيف المعاناة الإنسانية، بل تُستخدم لتجميع السكان في مناطق معينة مثل رفح، تمهيدًا لفرض وقائع جديدة على الأرض من خلال التهجير القسري'.

وأضاف أن 'استخدام الغذاء كسلاح لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ويُقوّض الثقة العالمية في العمل الإنساني، كما يُفاقم المأساة الفلسطينية بدلًا من التخفيف منها'.

وأوضح أن 'جمعية غزة الإنسانية'، المسجلة في سويسرا، والتي تقود جانبًا من هذا الجهد، معروفة بتجنيد جنود أمريكيين سابقين ضمن فرقها، مشيرًا إلى ما كشفته صحيفة 'هآرتس' من أن السلطات السويسرية تدرس فتح تحقيق رسمي ضد الجمعية بسبب شبهات بانتهاك القوانين المحلية والدولية.

وأشار إبراهيم إلى أن الأمم المتحدة وعددًا من أبرز المنظمات الإنسانية رفضت التعاون مع هذه الآلية، معتبرةً أنها تتنافى مع المبادئ الإنسانية الأساسية، وتُظهر إخفاق إسرائيل في الالتزام بالقانون الدولي.

من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي د. هاني الدالي إن فشل الخطة الأمريكية–الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في غزة لا يمكن فصله عن السياق الأشمل لفشل أحد أخطر أدوات الاحتلال، وهو سلاح التجويع، الذي راهن على كسر إرادة الفلسطينيين ودفعهم إلى الاستسلام أو التهجير أو الخضوع.

وأضاف الدالي لـ'فلسطين' أن هذا الرهان سقط أمام صمود غزة، التي واجهت الحرب الشاملة بكرامة وعزيمة، مؤكدًا أن الاحتلال خسر آخر أدوات الإكراه حين لم تنكسر إرادة الناس رغم الجوع والقصف والحصار.

وأوضح أن فشل خطة توزيع المساعدات يُعد ضربة استراتيجية لسردية الاحتلال ومحاولة استخدام الغذاء كسلاح سياسي، 'فعندما يفشل الاحتلال في إخضاع الجائع، فهو يفشل في فرض معادلات جديدة على الواقع الفلسطيني'.

وأشار الدالي إلى أن لهذا الفشل تبعات مباشرة، من بينها: تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، إذ يثبت أن الشعب لم يُهزم رغم كل أدوات الحرب، وهو ما يُربك حسابات العدو في أي مسار تفاوضي.

كما أنه يُشكّل ضغطًا أخلاقيًا وسياسيًا على الاحتلال، الذي بات عاجزًا عن إقناع العالم بأنه يسيطر على الوضع الإنساني في غزة، بل هو المتسبب المباشر في الكارثة، بالإضافة إلى أنه يُحرج الإدارة الأمريكية، التي تحاول الترويج لنفسها كطرف إنساني، بينما هي شريك في فرض الحصار، وتوفير الغطاء العسكري والسياسي للاحتلال، وفق الدالي.

وشدد الدالي على أن هذا الفشل ينضم إلى إخفاقات أخرى كالميناء العائم وعمليات الإنزال الجوي، والتي لم تكن مجرد فشل لوجستي، بل دليل جديد على عجز الاحتلال عن تطويع شعب 'لا يُساوِم على كرامته ولا يُهزم بالجوع'.

وأشار إلى أن المقاربة الأمريكية–الإسرائيلية تجاه غزة وصلت إلى مرحلة الانكشاف الأخلاقي والسياسي، خصوصًا حين يُطلب من العالم أن يرى في السياسات القائمة – قتل الأطفال تحت الركام، ومنع المساعدات، وتجويع السكان – نوعًا من 'الجهد الإنساني'، واصفًا ذلك بأنه 'ليس عبثًا فحسب، بل استخفاف فاضح بوعي الشعوب والرأي العام الدولي'.

ووصف الدالي الخطة الإسرائيلية–الأمريكية بأنها محاولة فاشلة لتمرير أجندة تطويع سياسي باستخدام أدوات التجويع والحرمان، لكنها أُسقطت بفعل وعي شعبي فلسطيني عميق يدرك أبعاد المعركة.

من جانبها، قالت المختصة في الشأن الإسرائيلي، منى العمري، إن الاحتلال كان يسعى من خلال إقامة مسارات احتجاز حديدية لتوزيع المساعدات إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولًا، الظهور أمام العالم بصورة توحي بأنه استجاب للمطالبات الدولية بوقف المجاعة، وكأنه 'أوقف المجاعة ووزع المساعدات'، في حين أن الواقع يُخالف ذلك تمامًا.

أما الهدف الثاني – بحسب العمري – فكان محاولة إنتاج مشهد يُعبّر عن السيطرة على الفلسطينيين، لتُصدّره (إسرائيل) إلى جمهورها الداخلي بوصفه نوعًا من الاستحواذ على المكان، ولترسل رسالة إلى حركة حماس مفادها أن الناس باتوا في قبضتها ويأتمرون بأمرها.

وأضافت أن الغاية الأعمق من كل ذلك كانت 'عسكرة عقل الغزي بالقوة'، أي دفعه ليكون الضحية المثالية التي تجوع بأمر (إسرائيل) وتأكل بأمرها، وتُجبر على المرور عبر مسارات تُشبه أنابيب اختبار أو معسكرات اعتقال نازية.

وأوضحت أن ما حدث يؤكد أن '(إسرائيل) لا تزال تستخف بالعقلية الفلسطينية، كما كانت قبل السابع من أكتوبر، وتتعامل معها باستعلاء استعماري مفرط'، مضيفة أن 'الاحتلال لا يزال يجهل طبيعة هذا الشعب وقدرته على التمرد والانفلات من أدوات السيطرة والهيمنة'.

وختمت العمري بالقول إن أهل غزة أسقطوا أول من أمس هذه المسرحية بالقوة الجماهيرية، معتبرة أن اقتلاع المكان من جذوره هو رسالة أصيلة أقوى بكثير من كل ما حاولت (إسرائيل) صناعته بالقوة. وأضافت: 'الاحتلال سيحاول إعادة الكرّة بصيغة جديدة، لأن وجوده العسكري الآن مُبرر عبر مسرحية توزيع المساعدات'.