اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٣١ أيار ٢٠٢٥
بينما كانت الأعوام الماضية تشهد حراكًا نشطًا في الأسواق وازدحامًا أمام محالّ الألبسة واللحوم والحلويات في قطاع غزة، تبدو الشوارع اليوم خاويةً إلا من الركام وخيام النزوح ورائحة الموت. الأسواق التي بقيت على قيد الحياة بالكاد تعرض شيئًا، والمتجولون فيها يحملون وجوهًا مثقلة بالحزن ووجع الفقد والحرمان، أكثر مما تحمل من فرحة بهذه المناسبة.
'إنه ليس عيدًا، إنه مجرد تاريخ آخر في التقويم'، بهذه الكلمات المؤلمة وصفت دينا حمدان شعورها مع اقتراب حلول عيد الأضحى في قطاع غزة، الذي يعيش تحت نار حرب طحنت البشر والحجر، وخنقت ما تبقى من حياة في هذا الشريط الساحلي المحاصر.
الشابة البالغة من العمر 22 عامًا، كان جيش الاحتلال قد دمّر منزلها في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وتسبب بنزوحها مع زوجها وابنتيها سيلا (4 أعوام) ودعاء (عام ونصف) مراتٍ عدة، وفي أماكن متفرقة من محافظات القطاع، إلى أن استقر بهم الحال تحت خيمة في أحد شوارع حي الرمال الشمالي.
تقول دينا لصحيفة 'فلسطين': 'يوم العيد صار مثل أي يوم آخر. لم نعد نفكر بشراء الملابس، أو تجهيز الكعك والحلوى، ولم نعد نهتم بالزيارات الاجتماعية، فالجميع لديه ما يكفيه من الهموم والآلام بسبب الحرب'.
وتضيف بنبرة حزينة: 'قبل الحرب، كانت حياتنا مختلفة تمامًا. كان زوجي يعمل ويوفر لنا احتياجاتنا. الآن لم يعد لدينا شيء بعد أن دمر الاحتلال منزلنا، حتى الطحين والمواد الغذائية قد نفدت، ولا يوجد ما يكفينا من طعام نسد به جوع بنتينا'.
منذ بدء الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مرَّ على قطاع غزة أربعة أعياد: عيدان للفطر، وعيدان للأضحى، يطرق آخرها أبواب غزة لسنة 2025 بعد أيام قليلة، لكنه لا يجد من يفتحها.
تحت ظل خيمة في ساحة الجندي المجهول، استغرق محمد ديب ساعات طويلة في نفض الغبار المتراكم عن الورود والأشجار الصناعية المتراصة بجوار بعضها، داخل خيمته التي حوّلها إلى متجرٍ صغير للترويج لبضاعته.
لكنه صُدم بعدم اهتمام الناس بشراء الورود الخاصة بالزينة المنزلية أو حتى الالتفات إليها، بعدما شغلتهم الحرب وجعلت أسمى أمانيهم البحث عن كسرة خبز ومكان آمن يحمون فيه من تبقى من أفراد عائلاتهم.
يقول محمد، البالغ من العمر 20 عامًا، وهو يمسك بفرشاة كبيرة ينفض بها الغبار عن مجموعة من الورود ذات الألوان الفاقعة: 'المواطنون لم يعد لديهم اهتمام بالزينة المنزلية في الأعياد. قبل الحرب، كان الطلب كبيرًا على هذه المنتجات، لكن الحرب غيّرت كل شيء، وبدّلت اهتمامات الناس ومعالم حياتهم'.
يمضي محمد ساعات طويلة تحت الخيمة رغم ارتفاع درجات الحرارة، لكنه لم يجد طريقة أخرى لإعالة والده المسن ووالدته وشقيقه الأصغر، إلا العمل في محل بيع الورود الصناعية وإكسسواراتها، وتحقيق بعض الدخل لتغطية الإيجار الشهري، بعد أن دمّر الاحتلال منزل عائلته في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة.
وعلى قارعة الطريق في حي الرمال، حيث تتعدد مشاهد الدمار الناتج عن الحرب الإسرائيلية، لجأ عبد الرحمن حطاب إلى بيع أنواع مختلفة من أحذية الأطفال. كان يعرض الأحذية على بسطة صغيرة، لكنه برع في ترتيبها في محاولة لجذب الزبائن.
إلا أن محاولته باءت بالفشل. 'لا أحد يريد شراء شيء، وكأن جيوب الناس صارت خاوية'، قال عبد الرحمن لصحيفة 'فلسطين'، وهو يقف أمام بسطته الصغيرة، مختصرًا حال أسواق غزة التي تشهد تراجعًا كبيرًا في القدرة الشرائية لدى المواطنين بسبب الحرب وتداعياتها.
وكانت عائلة هذا الشاب، البالغ من العمر 18 عامًا، قد فقدت منزلها في حي الشجاعية خلال الحرب، ولم تجد مأوى سوى متجر تجاري مدمَّر جزئيًّا في حي الرمال، الذي يُعد من أرقى أحياء مدينة غزة، وقد حوله جيش الاحتلال إلى ساحة حرب ودمار، حيث توغلت آلياته عدة مرات خلال الحرب الممتدة للشهر العشرين، ودمّرت مربعات سكنية كاملة فيه.
والمكان الذي تنزح فيه عائلة حطاب، مكتظ بـ35 فردًا من العائلة، بينهم عشرات النساء والأطفال الذين فقدوا مأواهم الوحيد، ويقضون فيه عيدهم الرابع.
'بدنا نعيش بس بكرامة، نعيد مع أصدقائنا وأقربائنا ونحس إننا بشر'، قال عبد الرحمن وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة مريرة، مختتمًا حديثه بكلمات تختصر وجع غزة كلها: 'لا ينقصنا عيد، بقدر ما تنقصنا حياة.'
في غزة، لم يعد العيد مناسبة، ولم يعد يعني شيئًا لأهلها بعدما صار، في نظرهم، جرحًا مفتوحًا في جسد مدينة لم تُمنَح فرصة للفرح للسنة الثانية على التوالي.