اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
**﴿إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأويلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}** يوسف37
نبوءة في غزة
إلى روحٍ سبقت زمانها، ورأت النار قبل أن تشتعل.
في قلب غزة، قبل أن تحلّ الكارثة بزمن، كانت هناك امرأة لا تُشبه سواها، ابنة أختي، التي جمعت بين عذوبة الروح وصرامة العقل، بين حنان المربية وصرخة الفدائية، بين رهافة الروائية ودقة المتدبرة في آيات الله، بين عمق الباحثة وسردية الأكاديمية. لم تكن تنطق إلا بما تعلم، ولا تكتب إلا بما تؤمن، تقرأ في القرآن بعين تختلف، تحلل بتفسير رقمي دقيق، وفق منهج الشيخ بسام جرار، لكنها تجاوزت التقليد إلى الإبداع، وبدأت تزرع من خلال قراءاتها إشارات واستنتاجات تتجاوز الورق إلى تحذير الناس من محرقة قادمة.
هي الروائية التي سكنها التفسير، والتي اشتغلت على سورة ياسين فحوّلتها إلى رواية منشورة (فإذا هم خامدون)، تخلّلتها قراءات رقمية تأملية عميقة، وبقي في جعبتها مشروع رواية جديدة على ذات النسق لم يُكتب له النور، لأن يد الإبادة سبقت الموعد. لم تكن غارقة في الأحلام، بل مشغولة بالاحتمالات الواقعية، وكانت تردد في لقاءاتها وحديثها العائلي أن ما هو آتٍ لن يكون عادياً، بل جحيماً يلتهم كل شيء، وأن على الناس أن يستعدوا لما هو أعظم من الحصار: المجاعة، الدمار، والذبح الجماعي.
كانت تنبه بحزم، لا بالخوف بل بالمسؤولية: 'خزنوا الدقيق والمعلبات، ازرعوا السطوح، جهزوا مواقد بديلة، لأن أيامًا ستأتي لن تجدوا فيها حبة طماطم واحدة، ولا كسرة خبز، وستضطرون لاستخدام الأثاث لطهو طعامكم'. كانت ترى المجاعة قبل أن تأتي، وترى طائرات الموت قبل أن تقلع، وتوصي كأنها تعلم أنها لن تبقى، لكنها تؤدي أمانة الرؤية.
بيتُها، الذي زرعته بالحياة على سطحه، كان أول البيوت التي دمرت فوق ساكنيها. ولم ترتقِ وحدها، بل ارتقى معها كوكب من الشهداء من أبنائها وشقيقتها وأهلها ولحق بها شقيقها، فيما بقيت كلماتها على لسان من نجا منهم، ذكرى حيّة ووصية دامعة. استشهدت وهي التي كانت تحذر من مشهد الاستشهاد، فارتفعت من الأرض التي أحبتها، مخضبة بما توقعت، مسبوقة ببصيرتها، وتالية لكلماتها.
كانت تُشبه يوسف في سجنه حين قال:
{لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأويلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (يوسف: 37).
بهذا الوضوح، بهذا النور، كانت تستبق الأحداث، تُبشّر وتُنذر، وتفتح في جدار التفسير نافذة تطل على الغيب، لا لتدّعي، بل لتتواطأ مع ما فهمته من كتاب الله، وتسير مطمئنة نحو ما آمنت به.
إنها نبوءة الروح الصادقة، والقراءة الصافية لكتاب الله، حين لا تصبح الآيات مجرد طقوس محفوظة، بل مدخلًا لفهم الزمان والمكان والمصير. لم تكن ترى في التفسير الرقمي مجرد لعبة أرقام، بل مفتاحًا لتأويل الزمن، وسبيلاً لفهم الكوارث قبل وقوعها، ووسيلة لحماية الناس من العمى الاختياري.
لقد كانت شهادتها ثلاثية: شهادة في البصيرة، شهادة في الكلمة، وشهادة في الدم. وفي غزة، لا تكتمل نبوءة إلا بالشهادة، ولا يُصدق القول إلا إذا خُتم بالفعل. ومثلما رأى يوسف عليه السلام رؤيا الملك وتأويلها، وأخرج الأمة من المجاعة، رأت هي المحرقة والمجاعة نفسها قبل أن تحل، ولكنها لم تسلم منها، فكانت من أوائل من ارتقوا تحت أنقاضها.
ما كتبته، وما زرعته، وما أوصت به، بقي. وسيبقى. لأنها اختارت أن تحيا كما يليق بالشهداء، لا أن تموت كما يموت العابرون. ولأنها قالت الحق، دون أن تُجبر على الصمت، في زمن يُكافأ فيه الخرس ويُدان فيه الكلام. كلماتها ليست عزاء، بل مشروع حياة. شهادتها ليست نهاية، بل بوصلة بداية.
إن غزة، في كل موجة دمار، تُخرج من بين أنقاضها صوتًا نبوئيًا جديدًا، يُذكّرنا أن البطولة لا تصرخ، بل تهمس؛ أن الشهداء ليسوا فقط من يرتقون بجرائم العدو، بل من عاشوا بنقاء الرؤية، وماتوا على عهد الكلمة.
سلام على روحها الطاهرة، وعلى نورها الذي لم يُطفأ، وعلى بيتها الذي صار قبرًا وسراجًا في آن، وعلى أرضها التي أنبتت من دمها وعيًا وبصيرة، وعلى من آمن بكلمتها، وفهم أن في الظلام نبوءة، وفي الحريق آية، وفي الشهادة يقينًا لا يموت.