اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب: ربحي دولة
بعد أكثر من مئة وثمانية أعوام على وعد بلفور، تشهد بريطانيا ومعها عدد من الدول الغربية تحولاً تاريخيًا في موقفها من القضية الفلسطينية. ذلك الوعد الذي صدر عام 1917 وأسّس لزرع مشروع استيطاني في قلب الأمة العربية، تسبّب في نكبة شعب وتشريد أمة، وفتح الباب أمام قرن كامل من الاحتلال، والتهجير، والتطهير العرقي، والانتهاكات اليومية. كان هذا الوعد بمثابة إعلان بداية المعاناة الفلسطينية، حيث دعمت الإمبراطورية البريطانية إقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين دون أي اعتبار لحقوق أهلها الأصليين، لتبدأ بذلك إحدى أطول المآسي الإنسانية والسياسية في العصر الحديث.
لكن اليوم، وفي مشهد يبعث على التأمل، تُعلن بريطانيا نفسها – التي كانت بالأمس شريكة في إنشاء الأزمة – اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. ليس ذلك فحسب، بل يرافق هذا الاعتراف اعترافات متزامنة من دول مثل إسبانيا، إيرلندا، النرويج، سلوفينيا، وتتبعه إشارات من فرنسا وأستراليا وكندا ودول أخرى كانت في يومٍ من الأيام تُعدّ حليفة مطلقة لإسرائيل. إنه مشهد تتقاطع فيه الرمزية السياسية بالتاريخ، وتُبعث فيه من ركام الألم إشارات بأن الحقيقة لا تُدفن، وأن الشعوب حين تُصرّ، فإن المواقف السياسية لا بد أن تتغير.
هذا التحول لم يحدث فجأة، ولم يكن محض خطوة دبلوماسية عابرة، بل هو ثمرة تراكمات طويلة من النضال الفلسطيني، ومن التعبئة الشعبية داخل تلك الدول، ومن تطور الوعي السياسي والإنساني عالميًا تجاه فداحة ما يتعرض له الفلسطينيون، لا سيما خلال السنوات الأخيرة التي شهدت تصعيدات دامية في قطاع غزة، وتوسعًا استيطانيًا غير مسبوق في الضفة الغربية، واستمرار سياسات الفصل العنصري. كل هذه العوامل جعلت من دعم إسرائيل بشكل أعمى عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على الحكومات الغربية، ودفعها إلى مراجعة مواقفها التاريخية.
لقد لعب الرأي العام الشعبي دورًا محوريًا في هذا التحول. في بريطانيا، خرجت الملايين في مظاهرات حاشدة دعماً لفلسطين، وشهدت الجامعات والمدن الكبرى حراكًا لا يُمكن تجاهله. وسائل الإعلام البديلة ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تنقل الحقيقة المجردة، بعد أن كانت الرواية الإسرائيلية تهيمن على المشهد الإعلامي لعقود. هذا الضغط الشعبي ترجم نفسه إلى مواقف برلمانية وسياسية، حيث واجهت الأحزاب الحاكمة في كثير من الدول الغربية مطالبات متزايدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع الاحتلال والاستعمار.
ومن الجانب السياسي، ساهم الجمود في عملية السلام، واستمرار الاستيطان، ورفض إسرائيل الالتزام بحل الدولتين، في تعزيز قناعة لدى تلك الدول بأن “الانتظار” لم يعد خيارًا. الحكومات باتت تدرك أن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني تفريغ أي عملية تفاوضية من مضمونها، وأن الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد يجب أن يُرتهن بموافقة إسرائيل أو نتيجة المفاوضات، بل يجب أن يكون خطوة سيادية وأخلاقية تعكس التزامًا حقيقيًا بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.
التحول في موقف المملكة المتحدة بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر يمثل لحظة فاصلة. فهذه هي الدولة التي كانت راعية وعد بلفور، والتي احتلت فلسطين ووضعتها تحت الانتداب، والتي لطالما وقفت إلى جانب إسرائيل في المحافل الدولية. اليوم، تعلن بريطانيا اعترافها بفلسطين دولةً مستقلة ذات سيادة، في خطوة تُعَدّ اعترافًا متأخرًا ولكن مهمًا بخطأ تاريخي جسيم، وتصحيحًا لمسار سياسي طالما مال نحو الاحتلال على حساب الضحية.
إن ما يجري اليوم يُمكن وصفه بأنه بداية مرحلة جديدة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ليس من حيث موازين القوى العسكرية، بل من حيث الوعي العالمي المتزايد بحقيقة ما يجري في فلسطين، والتحول في طبيعة الخطاب السياسي الدولي. الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين لا تُغيّر الواقع الاحتلالي بشكل مباشر، لكنها تُعيد تصحيح الرواية، وتُعزز من مكانة فلسطين القانونية والدبلوماسية، وتمنح الحق الفلسطيني بعدًا دوليًا أوسع، وتُحرج الاحتلال أمام العالم.
ربما لا يزال الطريق طويلًا نحو الاستقلال الحقيقي، وربما لا تكفي الاعترافات وحدها لوقف الجرافات، أو تحرير الأسرى، أو إعادة اللاجئين، لكن ما يحدث اليوم يؤكد أن الظلم لا يُمكن أن يدوم، وأن الحق وإن تأخر انتصاره، فإنه لا يموت. بعد مئة وثمانية أعوام من الظلم، ها هي بريطانيا تعترف، ومعها من كانت مواقفهم يومًا ما مُنكِرة للحق، ليعود الأمل بأن دولة فلسطين، التي صمدت وقاومت وقُدّمت في سبيلها آلاف التضحيات، ستُولد ذات يوم حرة، مستقلة، على كامل ترابها، وعاصمتها القدس