اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
لا ريب بأن السابع من أكتوبر يومٌ من أيام الله تعالى، وأنه كان استثنائيًا بكل ما فيه، وبكل لحظاته، من صور المقاومين الأبطال الذي يخترقون الأسوار المحصنة، ويعتلون الدبابات، ويشقون عباب المستوطنات، وكأنها لحظات اجترحت من كتب التاريخ الغابر، جمد فيها الوقت بعض الشيء، ورأينا أنموذجًا مصغرًا من التحرير، خُيل إلينا بأنه لن يأتي، حتى استعصى الخيال عن تصور ذلك، ولكن رجال الله كان لهم رأي آخر، استطاعوا أن يجعلوا المستحيل ممكنًا، وأن يعطونا صورًا لن تستطيع كل آلة الدمار والقتل والاستعمار محوها من الذاكرة، مهما حاولوا التشويش عليها، تجسدت في تلك اللحظات الآيات تُتلى على الألسنة، وتتجسّد في مئات المقاطع المصورة، وها هي البطولة الاستثنائية ما زالت مستمرة بعد عامين من القتل والحصار والتجويع، ولعمري كأن السابع من أكتوبر كان بالأمس، آلاف الصور والمشاهد من السابع إلى السابع، ومن الطلقة الأولى حتى الطلقات التي تجلجل في كل شبرٍ في قطاعنا الحبيب، وما بينهما ألف ألف حكاية نُسجت من دم ولحم.
لن أكون من تلك الفئة التي تقتات على الأسئلة في الأزمنة الصعبة، ولا الذين يستخدمون اليأس ليصفوا معاركهم في أوقات غياب الفعل الحقيقي، ونعاين تلك الوحوش البشرية التي تقود القلاع المتحركة، والطائرات المقاتلة، وهم يتلذذون بقتلنا، ومن ثمّ قتلنا المرة تلو المرة، عن خيرة أجناد الله الذين نخسرهم، وعن المقدرات التي فقدت والمعادلات التي اخترقت، في هذه الذكرى أشعر بأنّ ذاكرتي تتآكل، بشكلٍ غير مسبوق، لا أقف في الجانب الخطأ من التاريخ، ولست ممن يخذل أهله وأمته، فإن الحق راية لا توضع، والجهاد أعلى سنام هذه الأمة، ولكن ذلك التشويه نتيجة ما أراد الكيان القيام، أن يئدوا ما حققه السابع من إنجازات، لكي يتسلل العجز إلى قلب الفلسطيني أولًا في غزة، وفي كل مكان، ليتحول العجز إلى سلوك مستمر ودائم، فنحن القلة التي لا تستطيع مواجهة الغول، وإني البعيد عن الميدان، الذي يرى الأمور بعينين، عينٌ تقول 'وإنا لغالبون'، وعين مسهدة دامعة تبكي كل شهيد وجريح.
وإنّ ما نعاينه من تلك النقاشات في وسائل التواصل، ليست إلا محاولة من العاجز لتبرير عجزه، فالذي يقف مع الحق، أما الآخر فيريد أن يحمل الطوفان كل جريرة حديث، في تناسٍ تام، لحقيقة العدو وما قام به، وأنه المسؤول عن الواقع الفظيع، والإبادة المستمرة، وفي الحالين ليس إلا حوارًا بين عاجزين، الأول يركن على الفعل العظيم من المقاومة، ويغلق هاتفه وهو هانئ، والثاني يلقي باللوم والشتائم يمنة ويسرة، والمحصلة أن الفعل المباشر والنصرة الحقيقية كادت أن تغيب عن عالمنا العربي والإسلامي بعد عامين من الطوفان، وهي إلى جانب حالة الترنح في الذاكرة آنفة الذكر، ليست إلا من نتاج هذا العدو، الذي حاول هندسة الذاكرة، ومحو الإرادة، والمضي قدمًا في محاولة إنهاء ما نبت من عزٍ وفخر وسؤدد، يسعى إلى شطب السابع من أكتوبر، وتحويله من معجزة إلى محطة سوداء، ومن فعلٍ فوق الإمكان، إلى أنموذج للعقاب الجماعي والسيادة في المنطقة، وأنه الجدار الذي انقضّ على أهله وناسه وذويه، ولكن هيهات هيهات.
لا يستطيع من يعايش اللحظات الفارقة أن يدركها بجلها، إذ نعيش تفاصيلها كلها، أما النظرة الكلية، والإمعان في تأمل هذه المشهدية المتسارعة، والنظر في سيرورة التاريخ، ستتأتى لنا أو لمن يأتي من بعدنا، نقف عند المحطات الفارقة، ننساها لأننا نتلها بالتفاصيل، وما أكثرها وأمرها، وتظل هذه الذاكرة المشوشة تتلاعب بنا، فلو سألنا في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أيّ خبيرٍ استراتيجيّ أو محللٍ سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداءً بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم الولايات المتحدة للصين اقتصاديًا، وكبح جماحها في بحرها الجنوبيّ، وصولًا إلى المضي قدمًا في التطبيع العربي مع الاحتلال وعزل منطقتنا -نظريًا- عن الصراعات وما يتصل بها من سلام مزعوم، والعمل الفعليّ على إنهاء القضية الفلسطينيّة.
ولكن السابع من أكتوبر كان المحطة الفارقة الحقيقيّة، ورأينا العبور العظيم، بما فيه من مهابة وعنفوان، صورٌ ومشاهدٌ، وفتحت كوة في جدران المستحيل، وأعطت كل غيور درسًا في مساحات الممكن، وأكدت بأن قدرات الفعل لم تُغلق بعد، فها هُم المحاصرون منذ سنين، ينساحون في غلاف غزة وما بعده، يضربون الاحتلال ومستوطنيه ضربةً، وما زال الطوفان يغيّر الإقليم والعالم، والعزلة على هذا الكيان مستمرة ومتصاعدة، وقوافل كسر الحصر تتلاحق، وأصوات محاكمة قادة تتعالى، لن نصل إلى ثأر كل شهيد في القطاع بعد، وهو ثأر طويل جدًا، فبيننا وبينهم شلالات دماء، وآلاف الشهداء، ونحن من بلاد لا يموت فيها الثأر من العدو مهما مرت السنون.
أحيا الطوفان في النفوس ما كمن فيها من عزة وكرامة، وأحيا صورًا كادت أن تضمحل في غمرة سلطة الثقافة المتغلبة، وقرب اندثار النماذج السامية، وذكّر الجموع بأن في أيديها ما تقوم به ولو كانت مكبلة من قبل سلطات قمعية، فعلى الرغم من التقاعس الكبير والأداء الخجول في مقابل الحاجات الملحة، وظروف العدوان والدعوات المتكررة إلى استنهاض كل الطاقات لمواجهة الأمة، إلا أن هناك بصيص أملٍ يلوح بالأفق، فكما وصف بعض الخبراء أمتنا، بأننا نختزن في ذاكرتنا هذه الصور، ونتحمل الضربات الواحدة تلو أخرى، حتى لحظةٍ فارقة، تنفجر فيها مرة جديدة، وإني أرى ذلك الانفجار قادمًا لا محالة، وتلك الجموع التي تكبت دموعها صباح مساء، ستتحول إلى الموجة التالية من 'الطوفان'، ولكنه هذه المرة لن يُبقي ولا يذر.
كل التحية والحب والتقدير إلى الصامدين، والرحمة إلى الشهداء، شعبًا مكلومًا، صامدًا محاصرًا، جائعًا، وجنودًا بواسلَ أبطالا، وقادة أفذاذ، ونسأل الله الفرج القريب، إنه على ذلك قدير.

























































