اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في السابع من اكتوبر انفجر الغضب الفلسطيني كطوفان طال كتمانه، فانطلق من بين الركام والحصار ليعيد الى المشهد العربي والعالمي معنى الكرامة بعد طول غياب، لم يكن ما جرى مجرد عملية عسكرية، بل زلزالا في الوعي، ايقظ ما كان راكدا في النفوس، وفضح هشاشة منظومات سياسية واعلامية كانت تخفي عجزها خلف شعارات براقة، كسر جدار الصمت، وحرك في الشعوب ما كتمته لعقود من الغضب والعجز والخوف، وفتح الباب امام مراجعة كبرى لقيم بدت ثابتة، فاذا بها هشة تسقط امام اختبار الدم الفلسطيني.
جذور اللحظة تمتد عميقا في التاريخ الفلسطيني والعربي، عقود من الاحتلال والتهجير والتطبيع والخذلان، جففت خلالها الانظمة منابع الامل، وابتلعت هزائمها طموحات الشعوب، بعد ان ظن الكثيرون ان روح المقاومة قد انطفأت، وشعلة التحرر لم تعد تجد وقودها في زمن مثقل بالانكسار، جاء ليكذب الظنون، تراكم حتى لحظة الانفجار الكبرى، وجاء الطوفان ليعيد تعريف النصر والهزيمة، فلم يعد النصر مجرد تفوق عسكري، بل قدرة على بعث المعنى من تحت الركام، واعادة تعريف الانسان وهو يواجه الاحتلال بكل جبروته ووحشيته.
يومها تغير مزاج العالم، لا بالقرارات والتحالفات، بل بصحوة الضمير، ملايين خرجوا الى شوارع العالم يرفعون علم فلسطين، جامعات عالمية تحولت ميادين نقاش واحتجاج، فنانون وكتاب وطلبة تحدوا السردية الصهيونية في عقر دارها، لم يكن هذا استجابة فورية لما يجري في غزة، بل انعكاسا لصوت مكبوت، انسان وجد في المشهد الفلسطيني مرآة لظلمه، وفشلا لنظام القيم الذي كان يتغنى به، عالم طالما برر الحروب، وادعى الدفاع عن الانسان، فوجد نفسه امام اختبار اخلاقي حقيقي، سقطت اقنعة كثيرة، وتكشفت حقيقة الازدواجية الغربية التي منحت الدم الفلسطيني رخصة للإبادة، بينما ترفع شعارات الحرية في اوكرانيا وغيرها.
التغيير الاكبر لم يكن في الشارع فحسب، بل في ميدان السياسة ايضا، اعاد رسم الخريطة السياسية في بلدان عدة، حتى في المنابر الغربية، باتت فلسطين معيارا للصدق السياسي، فمن وقف معها كسب احترام الشعوب، ومن تواطأ خسر صورته ومكانته، مهما بلغت قوته، سقطت اسماء وصعدت اخرى، فحوسب قادة وتراجع نفوذ احزاب، صعدت قوى جديدة تعلن رفضها لجرائم الاحتلال، تدافع عن حق الشعوب في الحرية، حتى في قلب نيويورك، المدينة التي توصف بانها عاصمة المال والاعمال، ومركز النفوذ الصهيوني، صوّت الناس لعمدة مسلم مؤيد للحقوق الفلسطينية، متحدين حملات التشويه والضغط السياسي والمالي، لم يكن الامر حدثا عاديا، بل علامة على ان المزاج العالمي يتغير، وان الفلسطينيين، بصمودهم، اعادوا تشكيل البوصلة الاخلاقية للسياسة العالمية.
في المقابل، انكشف زيف كثير من الانظمة العربية التي واصلت صفقات التطبيع والتسلح، بينما شعوبها تختنق بعار العجز، لم يعد ممكنا تبرير الصمت، او اقناع الناس بانها تدافع عن استقرار وهمي، بينما تستسلم للهيمنة، واذا كانت الجيوش العربية قد استنزفت في حماية الاستبداد، فان غزة المحاصرة اثبتت ان الارادة حين تمتلك الايمان تتحول الى قوة تتخطى الحسابات العسكرية.
لقد بدا المشهد العربي وكانه يعيد اكتشاف ذاته، مدينة صغيرة محاصرة كشفت خواء الجيوش الضخمة، وقوة ارادة لا تملك سوى ايمانها وسلاحها البسيط، غزة لم تغير موازين القوى العسكرية؛ اعادت تشكيل موازين الوعي والمعنى، وذكرت العرب بان الانسان لا يقاس بسلاحه بل بثباته، اعادت الاعتبار لفكرة الكرامة التي غابت طويلا، كما فتحت نقاشا جديدا حول معنى الحرية والسيادة والعدالة، ليس فقط في فلسطين، بل في كل مكان يشعر فيه الانسان بالظلم، ما جرى في غزة الهم العالم، وذكره ان مقاومة القهر ليست فعلا محليا، بل قيمة انسانية عابرة للحدود، تفضح الانظمة، وتعيد الاعتبار للانسان.
لكن المعركة لم تنته، فالتحدي الحقيقي يبدأ من هنا، كيف يمكن تحويل هذا الوعي المتفجر الى مشروع وطني جامع، وفعل عربي قادر على بناء ارادة مستقلة لا تخضع للإملاءات الخارجية؟ كيف يمكن صون هذا الالهام الشعبي من ان يتحول الى عاطفة موسمية؟ الجواب يبدأ بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على اسس المشاركة والوحدة، وخلق فضاء عربي حر يستعيد قراره وارادته، وتصنع سياساته من نبض شعوبه، لا من حسابات التحالفات ومصالح العواصم البعيدة.
لقد كشف الطوفان ان الشعوب اقوى مما يظن حكامها، وان الكبت الطويل لا يلغيه القمع، وحين يتحول الوعي الى فعل، تسقط الاقنعةوينكشف الزيف، فمن تحت الركام خرجت غزة، ومن بين صرخات الاطفال والامهات ولد جيل جديد يعرف طريقه جيدا، لقد علمت غزة العالم ان الحرية لا تمنح، بل تنتزع، وان الكرامة ليست شعارا سياسيا، بل ممارسة يومية في وجه الموت، فلم ينتصر الفلسطيني بالسلاح وحده، بل بإرادته التي الهمت العالم، وبصبره الذي جعل الطغاة يرتجفون، وبقدرته على تحويل المأساة إلى معنى يتجاوز الحدود، ويعيد تعريف الإنسان نفسه.

























































