اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
أفاد الأسيرُ المؤبّدُ المحرَّرُ في الصفقةِ الأخيرة محمود عيسى بأنَّ ما قضاه في آخر سنتين يفوقُ الثلاثينَ سنةً التي سبقتها؛ فما صبَّه الاحتلالُ على رؤوسهم، وما تفنَّن به من براعاتِ اختراعٍ في صنوفِ العذاب، جعل السجونَ بالفعلِ جحيمًا كما وعد وتوعَّد ابنُ غفير. كلّ ما في صدرِه من أحقادٍ متوارثةٍ أبًا عن جدٍّ حوَّلها إلى تطبيقاتٍ وبرمجيّاتٍ للعذاب، أدخل إلى السجونِ فِرَقًا زوَّدها بأدواتٍ وعدَّةِ الحقد، واستعانَ بأحدثِ نسخِ الذكاءِ الصناعيّ، فقدّم سؤالًا له: كيف تخدمني – إن سمحت – في استحداثِ طرقٍ ووسائلَ تعذيبٍ لم يسبقني إليها أحدٌ على مرّ التاريخِ البشريّ؟ أريد منك أن تُخرِج كلَّ طاقاتِك في خيالِ الرعبِ الواسعِ الذي يُذيقُ كائناتٍ مجرمةً دون البشر بكثيرٍ، وهي سامّةٌ ومؤذية، كيف نُذيقُها أشدَّ العذاب؟
أجابه الذكاءُ، فردَّ عليه مسرعًا: هذا غيرُ كافٍ! قال له الذكاء: سأبذلُ مزيدًا من الجهدِ لأحقّقَ لك ما طلبتَ.
فقال له بسرعة: هذا غيرُ كافٍ! أريدُ أن ترفعَ المستوى أكثرَ وأكثر!
وظلَّ ابنُ غفير من الصباح إلى المساء وهو يطلبُ من الذكاءِ الإجراميِّ المزيد. وفي نهايةِ الحوارِ قال له ابنُ غفير: سأريك أفضلَ ممّا ذكرتَ لتُضيفَه إلى مخيّلتِك ولتُقدّمَ خدمةً أفضلَ لمن يطلبُ منك الطلبَ نفسَه.
بالفعل، نزلَ العذابُ، وتفنَّنَ ابنُ غفير وعجّبَ على الأسرى بكلِّ ما أفاده الذكاءُ الإجراميّ، وزادَ عليه من بناتِ أحقادِه الكثير.
ولكن كيف واجهَ أسرانا هذا العذاب؟
سُئل محمود عيسى: كيف قضيتَ وحدك في العزلِ أربعةَ عشرَ عامًا؟
فأجابَ بمقتضى المقابلةِ السريعةِ جوابًا سريعًا: الإيمانُ يصنعُ إرادةً، والإرادةُ إذا توجَّهت إلى القرآنِ والقراءةِ فإنَّ زمنَ الزنزانةِ يتحوّلُ من عدوٍّ إلى صديق.
نضالُ زلوم من الأسرى المؤبَّدات الذين تجاوزوا الثلاثينَ سنةً في السجون، كان هذا دأبُه: عالمًا أو متعلّمًا، في محرابِ الإيمانِ عابدًا، وفي ميادينِ العلمِ مدرّسًا. عبدُ الناصر عيسى حوّل السجنَ إلى مركزِ أبحاثٍ، ومروان البرغوثي حوّل سجنَ هدريم إلى جامعةِ دراساتٍ عليا، والأمثلةُ تصيبُ أغلبَ الأسرى في قدراتِهم العاليةِ على تحويلِ المحنةِ إلى فرصةٍ، بل إلى فرصةٍ ذهبية.
إلى أن أتى السابعُ من أكتوبر، وانقلبت السجونُ ودخلت عهدَ ابنِ غفير والذكاءِ الصناعيِّ في التعذيب. لم يعد هناك دفترٌ ولا قلمٌ؛ هدمَ جامعةَ هدريم على رؤوسِ معتقليها، ونقّل وشرّد الكفاءاتِ في منافي السجون، وانقضَّ على كلّ ما في السجونِ من مساحاتٍ حرّةٍ تفضي إلى تحقيقِ أيّةِ نجاحات.
لم يعد أمام الأسرى إلا العضُّ بالنواجذِ على الصبرِ والمصابرة، وتثويرُ ما في النفسِ من إيمانٍ، وما فيها من جمالياتٍ روحيةٍ تشتبكُ مع نوازلِ العذاب، وتحاولُ بكلِّ وسعِها التغلّبَ عليها أو التخفيفَ من وقعِها الصادمِ على نفوسِهم الحرّةِ الأبيّة.
ومن الاستشعاراتِ القلبيةِ التي أجادَ التعبيرَ عنها الأسيرُ المحرَّرُ الشيخُ ناجي الجعفراوي، وقد قالها من قبلُ كلُّ من ذاق وعرف، ممَّن طال قيامُهم في محاريبِ السجون:
كيف تجدُ العطاءَ في المنع؟ وكيف ترتقي في مدارجِ السالكين؟ تبدأ الرحلةُ بتذوّقِ طعمِ الصبرِ على البلاءِ، فتسكبُ من اليقينِ الإيمانيِّ ما يُبرِّدُ حرَّ البلاءِ وقسوته. ثم ترتقي لتجدَ نفسَك في ميادينِ الصبرِ الجميلِ الواسعة، تُمعنُ وتغوصُ في أعماقِ النفسِ بعد أن تُسبرَ غورَها آياتٌ كريمةٌ وأذكارٌ مُطمئنةٌ للقلبِ ومُثيرةٌ لاستشعاراتِه الجميلة.
ثم ارتقاءُ التحليقِ في سماءِ الرضا، ثم تزدادُ فهمًا لمرادِ المولى في ابتلائِك، لتزدادَ حبًّا من موقعِ 'مَن أحبَّه الله ابتلاه'. ثم تزدادُ حبًّا لتجدَ نفسَك شاكراً مولاكَ على البلاءِ لما منحكَ من محبّةٍ وارتقاءٍ.
عندها تُدركُ أنَّ الصبرَ على البلاءِ، والشكرَ في السراء، ما هي إلا مرحلةٌ تقودُك لتشكرَ أيضاً على البلاءِ والضرّاء.
الجعفراوي، وكلُّ من اهتمّوا بنهضةِ أرواحِهم في السجون، وصلوا إلى ما يُحوّلُ السجونَ إلى فرصِ ذهبية: تهذيبٍ، وارتقاءٍ، وتحليقٍ عالٍ في رحابِ معرفةِ الله، لقومٍ أحبّهم اللهُ فأحبّوه:
'يُحبّهم ويُحبّونه.'
ورغم أنفِ ابنِ غفير وذكائِه الصناعيِّ الأرعن في اكتشافاتِ سوءِ العذاب.