اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شهاب للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٩ أب ٢٠٢٥
خاص - شهاب
منذ بداية العدوان الإسرائيلي الأخير، روّج جيش الاحتلال لما أسماه 'مناطق آمنة' داخل قطاع غزة، مطالباً السكان بالنزوح إليها باعتبارها ملاذاً مؤقتاً يحميهم من القصف، لكن النتائج والاحصائيات الرسمية كشفت عكس ما يروجه الاحتلال، حيث أصبح استهداف المناطق الآمنة مكثف وبشكل يومي.
آخر ما نشره الاحتلال، هو ما طرحه المتحدث باسمه أفيخاي أدرعي عن وجود مناطق كثيرة آمنة ينزح إليها سكان مدينة غزة بالتزامن مع الاستعدادات القائمة بشأن شن عملية عسكرية جديدة على المدينة.
لكنّ تحقيقاً موسعاً استندت إليه صحيفة 'هآرتس' الإسرائيلية، يكشف أن هذه المناطق ليست سوى خدعة إعلامية، هدفها التغطية على جريمة التهجير القسري، بينما الواقع على الأرض يشي بكارثة إنسانية متفاقمة.
الخبير في الخرائط عدي بن نون من الجامعة العبرية، والبروفيسور يعكوف غارب من جامعة بن غوريون، أكدا لـ'هآرتس' أنّ عدداً من المناطق التي حدّدها المتحدث باسم الجيش كمواقع نزوح، تقع في الأصل ضمن مناطق سبق للجيش أن صنّفها 'خطرة'، بل إن الخرائط العسكرية ذاتها تضعها باللون الأحمر، أي خارج أي نطاق آمن للمدنيين.
تحليل أجراه غارب بيّن أن الخلل ليس عارضاً، فـ'من بين 19 كتلة وضعتها خريطة أدرعي، تقع 6 كتل كاملة أو أجزاء منها خارج الحدود المسموح بها'، ما يعني أنّ نحو ثلث 'المناطق الآمنة' المعلنة غير صالحة أصلاً للسكن. والأدهى أنّ المساحة الإجمالية المتاحة للنزوح لا تتجاوز سبعة كيلومترات مربعة فقط، وهو رقم هزيل إذا ما قورن بمئات آلاف المدنيين الذين يُطلب منهم الاحتماء فيها.
صور أقمار صناعية حديثة، حصلت عليها الصحيفة من بن نون وغارب، أظهرت أنّ كثيراً من هذه المناطق ليس سوى كثبان رملية أو طرق، وأحياناً مساحات تغمرها مياه الأمطار. بعضها الآخر مكتظ أصلاً بخيام نازحين قائمين منذ أسابيع. أي أنّ الادعاء بوجود 'مساحات آمنة وجاهزة' ليس سوى وهم تسويقي، يتناقض كلياً مع الواقع الميداني.
وفي ذات السياق، حذّر نزار عياش، رئيس بلدية دير البلح، من أنّ المحافظة الوسطى تقف على حافة الانهيار: 'لا توجد مساحة واحدة قادرة على استيعاب أي خيمة نزوح جديدة. الساحل مكتظ، الشرق تحت القصف، والبنية التحتية منهارة، ومحطة التحلية بالكاد تعمل'. وبحسب عياش، فإن الضغط المتواصل على هذه المنطقة ينذر بكارثة إنسانية إذا استمر النزوح إليها.
أما في خانيونس، فأوضح سلامة شراب، مدير إمداد المياه في البلدية، أنّ ما يُضخ يومياً لا يتجاوز 8–10 آلاف كوب، في حين يتطلب الوضع أكثر من 15 ألف كوب. 'الفرد بالكاد يحصل على 3–4 أكواب مياه فقط يومياً'، ويقول شراب، مؤكداً أنّ استمرار هذا الوضع 'مرشّح لانهيار صحي كارثي'.
وفي سياق متصل أكدت تقارير المنظمات الإنسانية أنّ إخلاء غزة سيؤدي إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، لأن السكان مرهقون أصلاً من نزوح متكرر منذ بداية الحرب. والأغلبية الساحقة فقدت القدرة المادية والجسدية والنفسية على النزوح مرة أخرى، في وقت تتواصل فيه عمليات القصف والإبادة.
ونقلاً عن إفادات جمعتها 'هآرتس' من السكان كشفت أنّ النزوح نفسه أصبح ثقل لا يمكن تحمله. فثمن الخيمة وحدها يتراوح بين 4,500 و5,000 شيكل، بينما تكاليف المواصلات تصل إلى 2,000 شيكل، وقد تبلغ 1,000 دولار. وبالمجمل، تحتاج العائلة نحو 12,500 شيكل لتتمكن من الانتقال من المدينة إلى الجنوب، وهو مبلغ يعجز عنه معظم سكان القطاع.
كما أن سيدة من غزة روت لمحطة إذاعة أنّ مجرد التنقل داخل القطاع تحول إلى 'مهمة شبه مستحيلة'، موضحة: 'إحضار عربة يجرها حمار أو توك توك يكلف على الأقل ألف دولار. لا أستطيع أن أتخيل عائلة قادرة على دفع هذه المبالغ. أحياناً نفضّل النوم بين الركام أو على الطرقات، لأنه ليس لدينا مكان نذهب إليه'.
هذه الشهادة تجسّد حقيقة النزوح في غزة: لم يعد مجرد انتقال من بيت إلى خيمة، بل رحلة معاناة مرعبة، يختلط فيها الخوف من القصف مع شبح العطش والجوع والمرض، إضافة إلى استنزاف مالي لا قبل للسكان به. إنها عملية تهجير قسري تُمارس تحت مسمى 'الإخلاء الآمن'.
النتائج مجتمعة تكشف أنّ ما يسميه الاحتلال 'مناطق آمنة' ليس سوى أداة من أدوات الحرب النفسية والعسكرية. الخرائط تكذب، الأرض غير صالحة، المساحات ضئيلة، البنية التحتية منهارة، والكلفة الاقتصادية باهظة، في المحصلة، يجد سكان غزة أنفسهم محاصرين بين قصف مستمر و'أمان مزيف'، ليصبح النزوح نفسه فصلاً جديداً من فصول الإبادة البطيئة.