اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٦ تموز ٢٠٢٥
﴿*فَلَن أَبرَحَ الأَرضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ* }يوسف80
نشيد البقاء الفلسطيني
في محرقة ابتلعت الأخضر واليابس، وقف أبناء غزة شامخين على أطلال الألم والدمار، متمسكين بثباتٍ لا يلين، يصنعونه من رحم الإيمان واليقين. لم يكن الثبات مجرد اختيار بشري، بل هبة من الله تبارك وتعالى، وقوة تضيء في ظلمات المحنة. بين أنقاض البيوت المهشمة وصدى القذائف، ارتفع صدى آيات الصبر والاحتساب، ملهماً القلب بأن لا ملجأ إلا الله، وأن عزيمتهم أكبر من كل نارٍ وأقوى من كل قهر. لم يغادروا أرضهم، رغم السيوف التي تلتف حولهم، وصاروا جسدًا واحدًا ينبض بالحياة، ينادي بصوت عالٍ: 'هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون، ولعسقلان عائدون.'
ثبات حتى الممات، قسم غزة كلها في محرقة أكلت الأخضر واليابس، وشعارهم {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان 17). هتاف داخلي عميق ينادي بعدم مغادرة البيت، صاحبنا في كل المراحل في أيام وليالي المحرقة.
كانت هناك معركة داخل كل واحد من أبناء غزة بين الثبات في المكان والبحث عن الأمان الذي تدّعيه عصابات الإبادة، ولا أمان في أي مكان في النهاية {يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء 78)، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم} (آل عمران 154).
والثبات من الله، وليس مجرد مهارة بشرية. في ظروف مركبة، اتخاذ القرار في لحظة مرتبكة ليس سهلاً، خاصة عندما يكون محيطك، الممتد على مد البصر، من عمارات وجيران وأهل وأقارب، قد اختفى ولم تعد تجد منهم أحدًا.
فلسطين والقدس وعسقلان وغزة تسكنني حتى حين كنت في مرحلة الدراسات العليا للدكتوراه، لم أرَ لها بديلاً رغم توفر فرص مريحة خارجها، ورغم قسوة غزة وأيامها ولياليها تحت الحصار والعدوان، وفي ظل الانتفاضات والاغتيالات حتى قبل 7 أكتوبر والمحرقة؛ ورغم خشونة أهلها وشظف العيش وضيق الرزق فيها؛ فلا أكاد أخرج منها لعمل قصير حتى أشتاقها.
وحين اشتعلت النيران في كل مكان، غادر من حولنا جميعًا تقريبًا أماكن سكنهم ويمّموا شطر الجنوب، بل إن هناك قلة دفعت آلاف الدولارات رشوة عند معبر رفح لمن يتحكمون فيه من الجانب الآخر للخروج من غزة. وكان الناس يقولون: 'نياله اللي معه جنسية ثانية'، خاصة لو كانت لدولة أجنبية، ومنهم بعض أولادي، الذين رغم ذلك ما برحوا الأرض، ورابطوا فيها مع أهلهم وشعبهم في المحرقة، رغم يُسر خروجهم وخروجي معهم إلى دولة أوروبية.
فبين جراح الأرض التي تتألم، تنمو بذور النصر الصامتة، فلا موت يقدر على إخماد عزيمتهم، ولا ظلم يوقف نهر الحياة الذي يسري في عروقهم، فغزة باقية، والشعب الفلسطيني صامد، يحمل راية الحق حتى النهاية.
إنها ليست فقط غزة اليوم، بل كل فلسطين التي تنبض في قلوب أبنائها، التاريخ هنا يكتب بدماء الشهداء، والذاكرة لا تنسى، والحق لا يُهزم، فكل حجرٍ وكل شجرةٍ في هذه الأرض تحكي قصة صمودٍ وإرادة لا تقهر.
وفي تلك اللحظات العصيبة، حيث تشتد المحنة، يلتجئ الإنسان إلى ركنه الروحي، يتوجه إلى ربه بدعاء يفيض صدقًا وإخلاصًا، يعلم أن بعد العسر يسرا، وأن الفجر ينتظر أن يعلن ولادة حياة جديدة على هذه الأرض المباركة.
بقينا بفضل الله تبارك وتعالى يسكننا هتاف عميق: 'هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون، ولعسقلان عائدون'، فـ{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} (يوسف 80) المقدسة حتى {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} (الأنفال 42).