اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ تموز ٢٠٢٥
في هذه الآية الخالدة، يكمن سرٌ عميق من أسرار الصبر، وعنوانٌ لملحمة الإنسان في مواجهة جوعٍ لا يقتل الجسد فقط، بل يحاول أن يقضي على الروح ويخمد نور الإيمان. وفي غزة، تلك المدينة التي حوصرت على كل الجبهات، وأُخضعت لآلة إبادة لا تعرف الرحمة، تتجلّى هذه الآية بأقسى صورها وأشدّ مشاهدها ألمًا.
غزة ليست مجرد أرض محتلة أو مدينة محاصرة، بل هي مشهد مأساوي يُعيد كتابة تاريخ المجاعات، ودرسٌ مرير في الإيمان بالعزيمة والصبر الذي لا ينكسر. فيها لم تكن المجاعة حادثًا عابرًا، ولا كارثة طبيعية، بل جريمة منظّمة، حربٌ صامتة بالخبز والماء وقطرات الدواء التي لم تصل، وبكل كسرة خبز مُنعت، وبكل نفسٍ مُنع منه الهواء.
هناك، في أرض الطين والرماد، ارتقى مئات الأطفال شهداء جوعًا، لم تدمع لهم أعين أمهاتهم، ولم تصل إليهم يد الرحمة في زمنٍ يائس. هم شهداء طوابير الجوعى، تحت ركام المنازل، في حضانات احترقت، ومدارس سقطت على رؤوسهم، ووجوههم التي لم تعرف سوى التعب والوجع. أطفال لم يذقوا طعم الفواكه أو اللحوم، بل أُجبروا على أكل الحشائش، وأحيانًا علف الحيوانات، في مشهد يحطم القلوب ويهز الضمائر.
في غزة، الحرب ليست فقط في القصف والرصاص، بل في حصار الحياة ذاتها. حصارٌ قاتلٌ ببطء، تُغلق به كل أبواب النجاة. المجتمع الدولي، بأجهزته ومؤسساته، غائب أو متواطئ، صامت أو متفرج. لا شاحنات تدخل إلا بإذن القاتل، ولا رغيف يُعطى إلا مقابل إذلال مقصود. مراكز التوزيع تحولت إلى مصائد موت، يُقتل فيها الجائع برصاصة قناص، ويخنق الباحث عن كسرة خبز تحت ركام الخراب.
لكن غزة، رغم هذا السواد، لا تزال تتنفس الصمود. الطوابير ليست مذلة، بل وقفة عزّ. الرغيف المقسوم بين عدة أطفال هو علمٌ مرفوع في وجه الظلم، ورمز مقاومة لا تُنكسر. الأم تقاسم رغيفها الرفيع على خمسة، والأب يحفر في الأرض فرنًا بدائيًا لتدفئة الخبز الذي لا يكفي. الشباب يبتكرون وصفات النجاة من العدس والماء، وأحيانًا الحصى، في اقتصاد الإيمان الذي لا يقبل الخضوع.
في هذه المعركة، لم تعد الطلقات فقط هي الأسلحة، بل كيس الطحين، وقطرة الماء، وكل لقمة تُعطى هي رصاصة في قلب الظلم. كل شحنة مساعدات تمثل صفعة في وجه القتلة. الطفل الذي يُقتل لأنه اقترب من شاحنة إغاثة، يصبح بطلاً بشهادة الضمير العالمي الميت، والمؤسسات التي كانت من المفترض أن تكون مظلة رحمة تحولت إلى أدوات تعذيب وتنسيق مع المحتل.
لكن رغم كل هذا، غزة ترفض الذل والهوان. رفضت أن تتحول إلى متسوّل يطرق أبواب المعونات المشروطة، ورفعت راية الفتات بشرف، مؤكدة أن العيش على الكرامة أغلى من المذلة. في زمن الابتزاز الدولي، جعلت غزة من كل كيس طحين إعلان رفض، ومن كل وجبة في تكية شعبية رسالة كرامة لا تلين.
حين أراد المحتل تجويعها، اختارت غزة الشهادة والعز، قاتلت حتى وهي جائعة، وأحيت أملًا ينبض في قلوبها، رافعة أيديها إلى السماء مستنجدة بقوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾.
في هذا المشهد المهيب، الجوع ليس استسلامًا، بل عبادة. الإطعام في غزة ليس صدقة، بل هو جهاد معاصر. كل لقمة تُعطى، هي رصاصة تصيب قلب الظلم. كل قافلة إغاثة تنطلق، هي صرخة في وجه الصمت العربي والدولي. كل قارب صغير يشقّ البحر اليوم، هو أعظم من أسطول عسكري، وكل رغيف يُقذف إلى غزة أعظم من ألف مؤتمر كاذب.
غزة لا تحتاج عطفًا زائفًا، ولا استجداءً، بل تحتاج لأيادٍ بيضاء تمتد بلا حدود ولا حواجز. أيادٍ لا تعترف بحواجز، تكسر الحصار، تنقل الخبز والماء، ترسل الحياة في يوم ذي مسغبة، ذلك اليوم الذي قُدّر فيه أن يكون الجوع امتحانًا للمؤمنين.
كسر الحصار اليوم هو أكثر من فعل إنساني، هو تحقيق لوصية ربانية: 'أو إطعام في يوم ذي مسغبة'، فالخبز الذي يصل غزة ليس فقط قوتًا، بل هو شرف الإنسانية، وعنوان أمل لا يموت.
غزة تقول للعالم: لا تتركوا جوع أطفالي يُستغل في سوق السياسة والابتزاز، لا تبيعوا صمودي في مزاد الخيانة. أنا هنا واقفة، صامدة، شامخة. نموت بكرامة، لا نعيش بذل.
أمام محرقة لا مثيل لها، غزة لن تغرق في التسول ولا في الفوضى. لجأت إلى الله، ورفعت أيديها كما فعل عمر في الاستسقاء، تنادي: 'اللهم أطعمنا من جوع، وآمنا من خوف'، وقلوبها مملوءة يقينًا: 'والله خير الرازقين'.
إنها ملحمة إنسانية، تاريخ يُكتب اليوم، وعبرة لكل من يظن أن الجوع كسر إرادة شعب، فهو لم يعلم أن غزة تصنع المجد من تحت الأنقاض، وأنها أعظم مدرسة في الصمود، تعلم العالم كيف يصنع الشرف من الجوع، والمجد من الطين.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل رمز كرامة ومقاومة، وتحدٍّ للحصار والقتل. هي فجر جديد ينبعث من لهيب الألم، وصوت يعانق السماء: 'لن نركع، لن نُذل'.
فلنمدّ إليها أيادينا البيضاء بلا حدود، نكسر الحواجز، ننقل الخبز والماء، نشاركها الإطعام في يوم ذي مسغبة، فكل لقمة نعطيها اليوم، هي وعد نصر لا يموت، وكل قطرة ماء نمدها، هي شريان حياة ينبض في قلب غزة، قلب الصمود الذي لا يخفق.