اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الأخبار
نشر بتاريخ: ١ أيار ٢٠٢٥
على خشبة شبه عارية، تقف ثلاث نساء بأجسادهن الأصيلة، يروين حكايات الغربة والاستغلال والحلم المكسور. في عرض «عندما رأيتُ البحر» لعلي شحرور (حتى 4 أيار ـــ مسرح «المدينة»)، لا ترقص النساء فقط، بل يُعدن صياغة المعنى حول الحب والعدالة. عرض يتداخل فيه الشعري والوثائقي، ليصير الرقص أداة كشف، والجسد مرآةً سياسية.
بيروت ليست مجرّد محطة عرض، بل شرط وجودي له. هي «الأرض المشتعلة» التي يُعاد فيها طرح الأسئلة الأولى عن الحريات كما عن الدور الثقافي. يصرّ شحرور على تقديم العرض في هذه المدينة «القاسية»، كما يصفها، كأنّ بيروت تمنح العمل جذوره. العرض، إذاً، لا يبدأ من خشبة المسرح، بل من المدينة ذاتها، بما تحمله من رموز وتشظيات.
يحمل عنوان العرض الراقص «عندما رأيت البحر» نبرةً شعرية تخفي تحتها عمقاً سياسياً واضحاً، خصوصاً مع توقيت العرض في الأول من أيار، بما يحمله هذا التاريخ من رمزية للطبقة العاملة والمقهورة. لا يقدم العرض الرقص بوصفه شكلاً جمالياً فقط، بل كوسيلة لفهم علاقة الجسد بالمكان، بالظلم، وبالإرث الثقافي المشترك.
على المسرح، تحضر زينة موسى، تيناي أحمد، ورانيا جمال، لا ليروين فقط تجاربهن الشخصية، بل ليحملن أيضاً ذاكرة عدد من النساء، ملقيــاً تفاصيـل حياتهـن اليوميـة، وموقعهـن ضمـن الأحداث المأسـاوية الأخيرة في لبنـان، مـن الأزمة الاقتصادية إلى جائحـة كورونـا ثـم انفجـار مرفـأ بيروت وصولاً إلى الحـرب التي نمـرّ بهـا اليـوم، حيـث كان قسـم كـبير مـن العاملات ضحيـة لهـذه الأحداث.
اختيار توقيت العرض
يحمل رمزيةً للطبقة
العاملة والمقهورة
«بين البحر ومدينة تشتعل، تُمسك شجرة بلوط بالأرض، وفي ظلّها ترقص ثعلبة، وفتاة تُحدّق بثبات نحو الأفق».
في هذا التكوين، الذي يرد في توصيف العرض، يحضر البُعد الميثولوجي لا كاستعارة، بل كفكرة يُبنى عليها لنقد «نظام الكفالة الأشبه بنظام عبودية مستحدث»، بحسب شحرور.
وعليه، استقى العرض شهادات نحو ثلاثين عاملة مهاجرة، وثّق الفريق قصصهن، في خضم الحرب على لبنان في أيلول (سبتمبر) الماضي، حيث تُركت عاملات المنازل المهاجرات لمصيرهن، بعدما فرّ أرباب عملهن اللبنانيون من القصف، تاركين نساءً من دول أفريقية وآسيوية بلا مأوى ولا وثائق.
لم تُنفّذ وعود الإغاثة، فقضت بعضهن تحت الأنقاض، ولم يتم تسلّم جثثهن، أو لم يدفنّ في أراضيهن، بينما لجأت أخريات إلى شاطئ بيروت، حيث رأين البحر «أو الحرية» للمرة الأولى، باحثات عن خلاص مستحيل.
تُقدم الشهادات بلغات متعددة، الأمهارية، العربية، ومترجمة إلى الإنكليزية (ماريان نجيم). هذا التعدد اللساني ليس مجرد تنويع جمالي، بل يُرسّخ تقاطع الهويات على المسرح.
تحضر الأغنيات الشعبية من ذاكرة النساء الإثيوبيات، وتندمج مع تراث عربي كلاسيكي كـ«يا ديرتي» لأسمهان.
وبينما يُروى الألم، تظهر شخصية قارئة العزاء من جنوب لبنان، الراحلة حسيبة بدير، التي كانت تغني ما يعرف بالـ «فراقيات»، التي يراها شحرور مرجعاً جوهرياً، «كانت تندب أهل البيت من دون أن تسمح بتسييس صوتها»، كما يقول.
حضور حسيبة هو استعادة لطقوس الندب، لا بوصفه بكاء، بل فعل مقاوِم، جسدي وصوتي، وبالتالي يسـعى العـرض عبر مرجعية حسيبة والشخصيات الأخرى، إلى إعـادة تكويـن مفهـوم الأيقونة، أو البطـل، بالاستناد إلى وقائـع وأحــداث مــرت بهــا المشــاركات وكانــت نقطــة تحــول في حياتهــن وحيــاة مــن حولهــن.
العرض متعدد الوسائط. إلى جانب بروز النص (إعداد: حلا عمران)، تحضر الحركة الجسدية (كوريوغرافيا: علي شحرور، ومساعد: شادي عون) لا لتكون تزيينية، بل تحمل سرداً موازياً أو حتى بديلاً من الكلمات.
«العرض حزين، لكنه فرح في الوقت نفسه»، يقول شحرور، مستكشفاً التناقض الذي يصنع الجمال الكوريوغرافي. الجسد لا يُؤدى كرمز، بل كأثر. تنبع الحركات من الحكاية الخاصة وأصالة الجسد، وتتكون المشهدية من تنوعات حركية لا تنتمي إلى أي مدرسة ثابتة.
النص المسجّل، الأصوات، والموسيقى الحية (تأليف وأداء: لين أديب، وعبد قبيسي) تشكل معاً تراكباً سمعياً بصرياً يعيد ترتيب الإحساس بالحكاية.
«العرض مرتبط بدوامة الحروب والصراعات والعنف» وكون العرض الأول في بيروت هو الافتتاح العالمي لـ «عندما رأيت البحر»، يعي شحرور ضرورة رفض خطاب الضحية، «لا أريد شفقة.
لا أريد أن أكون الآخر». فالفن هنا استجابة لضرورات داخلية، «أفكر في الحاجة الملحّة النابعة مني». لا يعد العرض بتغيير العالم، لكنه يتقاطع مع واقعه بأثر ناعم، مُوجع، وبطيء.
عبر تضافر كل العناصر والأدوات الفنية، يقترح «عندما رأيتُ البحر» شكلاً مسرحياً متحرّراً من القوالب.
العرض ليس مجرد تأبين لنظام ظالم، بل الأرجح، هو محاولة لإعادة الحق في الرقص، في الدفن، في الأرض، وفي الحكي، لنساء غالباً ما تُسحب أجسادهن من المشهد.
هكذا يظل البحر، في نهاية العرض، صورةً مفتوحة: على العبور، على الانكسار، وربما على ولادة جديدة.
* «عندما رأيت البحر»، 1، 2، 3، 4، أيار (مايو). مسرح «المدينة» (الحمرا) ــ س:20:30 ـ الحجز في فروع «أنطوان»، و«أنطوان أونلاين».