اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الأنباء
نشر بتاريخ: ١٢ تموز ٢٠٢٥
بيروت ـ داود رمال
تمثل الزيارة المرتقبة للموفد الأميركي السفير توماس براك إلى بيروت، محطة دقيقة في سياق المسار التفاوضي المعقد الذي يتحرك في الظل بين الولايات المتحدة ولبنان.
فزيارة براك، كما تقول أوساط ديبلوماسية في بيروت لـ «الأنباء»، ليست منفصلة عن تفاهمات نوفمبر الماضي، بل تأتي في توقيت سياسي يتطلب تثبيت مرجعيات الدولة اللبنانية، وتفعيل صيغة «الخطوات المتلازمة» بين انسحاب الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة.
ما كشفه رئيس الحكومة نواف سلام علنا عن أن الورقة التي حملها باراك، في زيارته الثانية، ليست سوى مجموعة اقتراحات لترجمة التفاهمات السابقة، يعكس حجم التعقيد الذي يلف هذا المسار.
سلام كان واضحا في التمييز بين صيغة متوازنة تحفظ السيادة وتراعي التراتبية الدستورية، وبين مقاربة قسرية تفرضها إسرائيل أو تسوق لها بعض العواصم، كشرط مسبق لحصرية السلاح أو لضبط القرار الأمني.
ولبنان لا يتعاطى مع الورقة الأميركية كإملاء، بل كنقطة انطلاق لنقاش تفاوضي من داخل المؤسسات. وقد ردت الرئاسات الثلاث، كما كشفت «الأنباء» سابقا نقلا عن مصدر ديبلوماسي، بملاحظات لبنانية جامعة على الورقة الأميركية، أخذ فيها برأي رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام، وسلمت رسميا باسم رئيس الجمهورية العماد جوزف عون.
هذا الرد المشترك أعاد تصويب البوصلة السياسية، فبيروت لم تعد تتعامل مع الزيارة الأميركية على أنها فرصة لإعادة إنتاج صيغة «الترويكا» كما يشاع، بل إن سلام، كما شدد المصدر نفسه، كان حاسما بأن مجلس الوزراء هو المرجعية الدستورية الوحيدة لأي قرار وطني، بما في ذلك موضوع السلاح غير الشرعي. هذا التوضيح أتى ردا مباشرا على محاولات التشكيك بشرعية مؤسسات الدولة، وعلى الطروحات التي تتحدث عن «صفقات جانبية» بين القوى السياسية أو عبر الوسطاء الدوليين.
من هنا، تقرأ الزيارة الثالثة لباراك كلحظة اختبار دولي حقيقية: هل ستعترف واشنطن وشركاؤها بالموقع التفاوضي اللبناني القائم على مرجعية الدولة، أم ستصر على ربط التبريد في الجنوب بشروط أمنية إسرائيلية؟ المؤشرات الأولية، وفق مصادر ديبلوماسية مطلعة أفادت لـ «الأنباء»، بأن باراك أدرك فشل الرهان على اللجنة الأمنية الخماسية التي لم تحقق الهدف المرحلي منها، ما دفعه إلى طرح أفكار جديدة، تستند إلى مبدأ «لا انسحاب دون سيادة، ولا سيادة دون انسحاب». وهذا ما يلاقي الموقف اللبناني الجامع حول الثوابت: الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وقف الخروقات الجوية، إطلاق الأسرى، والبدء الفعلي بالإعمار، مقابل تكريس الدولة مرجعية أمنية واحدة بسلاح شرعي وقانوني.
هذا التطور لا يقرأ فقط من زاوية التفاوض، بل من زاوية توازنات ما بعد الحرب. فبيروت، بحسب المصدر، باتت ترفض أن تكون طرفا مفعولا به، أو ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. وتطالب ان تكون طرفا شريكا في أي ترتيبات مستقبلية، وأن تبنى هذه الترتيبات على قاعدة احترام السيادة لا على قاعدة كسر الإرادات. لذا، فإن أي صيغة تنفيذية سيحملها باراك في جولته المقبلة لن تناقش خارج المؤسسات، بل ضمن مجلس الوزراء، بما يكرس الشرعية ويمنع فرض الأمر الواقع، ويقطع الطريق أمام أي محاولات لتجاوز المؤسسات أو فرض شروط مسبقة من أي جهة داخلية أو خارجية.
قد تكون الزيارة الثالثة منعطفا حاسما، وقد تحمل مؤشرات على وجود رغبة أميركية بتسريع التهدئة في الجنوب لتسهيل تسويات أخرى. لكن بيروت لا ترى في الجنوب مجرد ساحة تابعة أو جبهة مؤقتة، بل تعتبر أن أي ترتيب لا يبدأ من احترام المعادلة اللبنانية سيسقط عاجلا أو آجلا. وهنا تبرز دقة اللحظة: فإما أن تؤدي المقاربة التفاوضية إلى استقرار دائم ينطلق من التوازن والندية، وإما أن تتحول إلى هدنة مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
في النهاية، وبحسب المصدر الديبلوماسي نفسه، «فإن الثقة تتزايد في الداخل اللبناني بأن الدولة قادرة على حماية موقعها التفاوضي، شرط أن تبقى المؤسسات وحدها هي من يتحدث باسم اللبنانيين».
فهل تحمل جعبة باراك المقبلة ما يثبت ذلك، أم أننا على موعد مع جولة جديدة من التباينات التي ستعيد عقارب التسوية إلى نقطة الصفر؟