اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٤ كانون الأول ٢٠٢٥
تبدو رواية «سمحة» للروائي العماني «خالد المخيني» وكأنها وُلدت من رحم الموج نفسه؛ نصٌّ يتأرجح بين المرافئ والذاكرة، بين الوقائع التاريخية والخيال الذي يضخّ فيها حياةً جديدة. منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه أمام عملٍ لا يكتفي بسرد حكاية عن البحر وتجارة السفن، بل يسعى إلى تفكيك العلاقة المعقّدة بين الإنسان والمصير، بين التاريخ كأثر والخيال كوعي. فـ«سمحة» ليست رواية عن سفينة بقدر ما هي تأمّلٌ في فكرة الإبحار، حيث يتحوّل البحر إلى مرآةٍ للوجود، والسفينة إلى استعارة كبرى للحياة، والنوخذة ناصر إلى تجسيدٍ للتوازن الإنساني بين القسوة والرحمة، بين القيادة والوجدان.
يستمدّ الكاتب قوّته من قدرته على الجمع بين المعرفة التاريخية والنبض الإنساني. إذ لا يقدّم زنجبار وسواحل أفريقيا الشرقية كمواقع جغرافية جامدة، بل كفضاءات للتفاعل الحضاري والتنوّع الثقافي، حيث تتقاطع التجارة بالأسطورة، والمغامرة بالحكمة. هنا يصبح البحر جسراً لا حاجزاً، والاختلاف بين المجتمعات العربية والأفريقية ليس صراعاً، بل حواراً يعكس ثراء التجربة البشرية في تنوّعها.
وفي عمق هذا العالم، يضع الكاتب شخصياته أمام اختبارات كبرى - الحريق، المرض، الهروب - لا بوصفها محطات درامية فحسب، بل كبوابات فلسفية نحو الفهم والبعث. فالاحتراق تطهير، والمرض امتحانٌ للروح، والهروب انكشافٌ على الذات. إنّها لحظات يتحرّر فيها النص من الحدث ليبلغ منطقة التأمّل الوجودي، حيث يصبح الخطر طريقاً إلى الوعي، والموت شكلاً من أشكال التحوّل.
من خلال هذه البنية الرمزية المحكمة، يُعيد الكاتب صياغة العلاقة بين الإنسان والتاريخ والبحر، ويقدّم للقارئ المعاصر تجربة تتجاوز الزمان والمكان، لتذكّره بأن النجاة ليست في الوصول إلى الميناء، بل في اكتشاف معنى الرحلة ذاتها. بهذا المعنى، تنتمي «سمحة» إلى الروايات التي لا تُقرأ لتُعرَف نهايتها، بل لتُختَبَر أسئلتها، ولتظلّ تبحر في وعي القارئ طويلاً بعد أن يُغلق الكتاب. ومع الروائي العماني خالد المخيني أجرينا هذا الحوار:
{ الرواية تحتوي على تفاصيل دقيقة عن تجارة السفن، زنجبار، وعلاقة العرب بأفريقيا الشرقية، هل اعتمدت على مصادر تاريخية أم على تخيّل أدبي مستوحى من الواقع؟
- يمكن القول إن «سمحة» كُتبت على تخوم التاريخ والخيال معاً. لقد عدتُ إلى الوثائق البحرية، وإلى ذاكرة البحّارة العمانيين التي تختزن مزيجاً من الوقائع والأساطير، واستحضرت من أرشيف الرحلات ما يُنير الطريق، لكنني تركت مساحة واسعة لنبض الخيال. لم أكتب التاريخ كما هو، بل كما تحرّك في وجدان الناس، فـ«سمحة» ليست سفينة من خشب، بل كيان رمزي يطفو بين الأمس والروح، بين ميناء الذاكرة ومرافئ الحلم.
{ كيف أردت من خلال الرواية إظهار التباين بين المجتمعات العربية التقليدية وأوضاع شرق أفريقيا في ذلك الوقت؟
- لم أُرِد أن أضع الشرق العربي في مواجهة الشرق الأفريقي، بل في حوار معه. أردت أن أجعل من التباين مرآةً تعكس غنى الإنسان واختلاف بيئاته. فالمجتمع العربي آنذاك كان متجذّراً في العرف والعادة، بينما كانت سواحل أفريقيا الشرقية تتنفس روح الانفتاح والتعدد. في هذا التماس بين الثبات والحركة تتولّد الدهشة الإنسانية. البحر في «سمحة» لا يفصل بين عالمين، بل يربطهما بخيطٍ من الملح واللغة والتجارة والمصير المشترك.
{ النوخذة ناصر يظهر كمزيج من الحزم والحس الإنساني، كيف بنيت هذه الشخصية لتكون متوازنة بين السلطة والرحمة؟
- النوخذة ناصر هو ابن البحر، والبحر لا يمنح قيادته إلّا لمن يملك القلب والعقل معاً. بنيت شخصيته على التناقض الجميل بين الانضباط والوجدان، بين القسوة التي تفرضها المهنة والرحمة التي تُبقي السفينة إنسانية. في داخله صوتان يتنازعان: صوت الريح الذي يأمر، وصوت الموج الذي يعظ. لم أرد أن أجعل منه بطلاً أسطورياً، بل إنساناً يرى في قيادته مسؤولية أخلاقية، لا سلطة فوقية.
{ ما الدافع الأساسي وراء اختيارك لمحور الرواية أن يكون على متن السفينة، بين البحّارة والتجار؟
- لأن السفينة عالمٌ مصغّر للبشرية، والموج لا يرحم الزيف. على سطحها تسقط الأقنعة وتُختبر المعادن الحقيقية للإنسان. أردت أن تكون «سمحة» سفينة الوجود، وأن تكون الرحلة استعارة للحياة نفسها: تبدأ بالإبحار نحو المجهول وتنتهي بالوعي بأن الميناء الحقيقي في داخلنا. فكل تاجر وبحّار على متنها كان يبحث عن شيء أكبر من الربح؛ كان يبحث عن معنى.
{ الحوادث الكبرى مثل الحريق، الأمراض، والهروب، هل هي أدوات درامية فقط أم تعكس رؤية فلسفية للحياة والموت؟
- هذه الأحداث هي جزء من فلسفة الرواية لا من حبكتها فحسب. فالحريق ليس مجرّد واقعة، بل تطهير للنص من رماده. والمرض ليس ضعفاً، بل امتحانٌ لقدرة الروح على البقاء. أما الهروب، فهو لحظة مواجهة مع الذات. في «سمحة» لا وجود للموت بمعناه النهائي، بل هناك تحوّل مستمر؛ كل حريق يلد نوراً، وكل مرض يفتح نافذة على الشفاء الداخلي.
{ كيف ترى تأثير هذا النص على القارئ المعاصر؟ هل هو دعوة لفهم التاريخ، أم للتأمّل في الإنسان وطموحه؟
- أطمح أن يرى القارئ في «سمحة» أكثر من رواية تاريخية؛ أن يقرأها كتجربة إنسانية تتجاوز الأزمنة. فالتاريخ فيها ليس غاية بل وسيلة لفهم جوهر الإنسان حين يبحر في طموحه ومصيره. القارئ المعاصر يواجه أمواجاً مختلفة، لكن الخوف ذاته، والطموح ذاته، والرغبة في النجاة هي نفسها منذ أول مركبٍ عرف البحر. «سمحة» هي تذكير بأن البحر لم يكن يوماً جغرافيا، بل قدراً، وبأن الإنسان لا يُقاس بمينائه، بل بمسافة الحلم التي يجرؤ على قطعها.











































































