بين جمود الإصلاحات وتبدّل المقاربات: الأزمة مع صندوق النقد تتعمّق... هل تُمهّد واشنطن لمسار بديل في لبنان؟!

نوال أبو حيدر

تتوالى فصول الأزمة الاقتصادية في لبنان بشدّة، فيما لا تزال الإصلاحات المنشودة رهينة التجاذبات السياسية والمصالح الضيّقة. أكثر من خمس سنوات مرّت على الانهيار، ولا يزال الخروج من النفق متعذّراً. كل بارقة أمل تصطدم بواقع معقّد، تتشابك فيه العوامل الداخلية بالتطورات الإقليمية والدولية، غير أن المتغيّرات السياسية في المشهد الدولي تُنذر بتحوّلات محتملة، قد تفرض إيقاعاً جديداً على صنّاع القرار في لبنان، وتفتح الباب أمام مسارات مغايرة لما اعتاده اللبنانيون في السنوات الأخيرة.

من هنا، جاءت التصريحات الأخيرة لنائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس خلال مشاركتها في منتدى قطر الاقتصادي، حاملةً مقاربة مختلفة قد تُشكّل انعطافة مهمّة في مسار التعاطي مع الأزمة الاقتصادية اللبنانية.

خلافاً للخطاب الدُولي التقليدي الذي غالباً ما ربط أيّ دعم خارجي أو انفتاح اقتصادي بوجوب التفاهم مع صندوق النقد الدولي، تحدثت نائبة المبعوث الأميركي الى الشرق الأوسط بنبرة جديدة، أكّدت فيها أن صندوق النقد ليس الخيار الوحيد.

وذهبت أبعد من ذلك عندما تحدّثت عن «رؤية كبرى» تُتيح للبنان جذب الاستثمارات الخارجية بطريقة تجنّبه الحاجة إلى المزيد من القروض أو حتى اللجوء إلى برامج التصحيح المالي التي يفرضها صندوق النقد عادة في مثل هذه الحالات.

وعليه، يصبح من المنطقي طرح الأسئلة التالية: ما الذي نريده فعليا من هذه العلاقة مع صندوق النقد؟ وهل هناك فعلاً خيارات أخرى؟

خيارات أورتاغوس البديلة.. زلّة لسان؟

في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أنيس أبو دياب في حديثٍ لـ«اللواء» إنه «ما تم الحديث عنه في هذا الخصوص مثير للجدل ولكن أورتاغوس أصدرت بيان أوضحت من خلاله أن المقصود بما كانت قد قالته في المرة السابقة عدم تجاوز صندوق النقد بقدر ما هو الاستعانة للوصول إلى المبتغى المطلوب».

ويتابع: «بغض النظر عن ما قالته وعن ما يُقال، فأنا أعتقد أن لبنان في الدرجة الأولى شريك في صندوق النقد الدولي وبالتالي الأخير مُلزم تقديم الإستشارة الفنية للبنان كما باقي الدول الأعضاء بشكل دائم ودوري وملزم بدعوة لبنان إلى اجتماعات الربيع واجتماعات الخريف بشكل دائم للتواصل، وهو أيضاً ملزم بتقديم المعلومات المتعلقة بالسياسات الضريبية والسياسات المتبعة في لبنان والرأي والنصح في ذلك بشكل مستمر».

هل تهيّئ واشنطن لخطة بديلة؟

من هنا، يشرح أبو دياب أنه «من المؤكد أننا اليوم نعيش في العصر الأميركي بالمنطقة، وبالتالي فإن ما يُخطّط له سيحمل توجّهاً جديداً على الصعيد الاقتصادي، ولذلك يجب ألا نفوّت فرصة إعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني».

هل نستطيع تجاوز صندوق النقد؟

في هذا الخصوص، يعتبر أبو دياب أنه «أولا قيمة القرض الذي يعطيه صندوق النقد للبنان تبلغ من 1 إلى 10 أضعاف حجم مساهمة لبنان في الصندوق، إذ يبلغ حجم مساهمته الفعلية 836 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة ما يقدّر بمليار ومئة مليون دولار. فحجم المساعدة المسهلة للبنان ستكون بين الضعف والعشرة أضعاف».

أين يقف لبنان اليوم من متطلّبات النهوض الاستثماري؟

أمام كل تلك المعطيات، يرى أبو دياب أنه «عندما نقوم بالتوقيع مع صندوق النقد سنرى الإيجابيات بشكل واضح وسريع، كفتح المسار مع الصناديق الدولية ومؤسسات الاستثمارات الدولية، فتح مسار العلاقة الإيجابية مع الدول الداعمة التي اجتمعت في «سيدر» في العام 2018 بباريس وبالتالي قدمت المساعدات والهبات للبنان، لكن كانت مشروطة بإصلاحات، إلّا أن لبنان لم ينجزها بمفرده».

ويتابع: «اليوم صندوق النقد أيضاً يطالب بهذه الإصلاحات الضرورية للاقتصاد اللبناني، إذ إنه لا يمكن النمو والاستمرار إلّا بعد تحقيق هذه الإصلاحات، بدءاً من انتظام عمل المؤسسات، انتظام المؤسسات المصرفية، استعادة ودائع الزبائن، تنظيم عمل القطاع المصرفي وإعادة هيكلة القطاع العام وغيرها من النقاط المعروفة».

ويختم: «التوقيع مع صندوق النقد يعني الاقتراب من خروج لبنان عن اللائحة الرمادية لأنه اليوم قائم عليها والأهم من ذلك أن احتمالية الذهاب إلى اللائحة السوداء متاحة، وتعود الأسباب إلى تبييض الأموال، التهرّب الجمركي والضريبي، التهريب، الفلتان غير المحقق والقضاء غير العادل وغيرها».

لبنان بين صندوق النقد وخيارات الإصلاح الداخلي

وفي السياق نفسه، تشير مصادر اقتصادية إلى أنَّه «بغضّ النظر عن تصريحات المبعوثة الأميركية أو أي جهة أخرى، فإن هناك مجموعة من الإصلاحات التي يتوجّب على لبنان تنفيذها دون انتظار شروط من صندوق النقد أو غيره. نحن نؤيد عموماً ما يقترحه صندوق النقد فيما يتعلق بإصلاح قطاع الكهرباء، وتنظيم قطاع الاتصالات، والتصدّي للاقتصاد غير الشرعي، والسعي للخروج من اللائحة الرمادية، وتحسين إدارة الشأن المالي، ومكافحة الفساد المالي، والحدّ من التهرّب الضريبي والجمركي».

وتتابع: «هذا النوع من الإصلاحات ضروري بغض النظر عن مدى توافقنا مع صندوق النقد، لأن لبنان بحاجة ماسّة إليها للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية»، معتبرةً أن «الاتفاق مع صندوق النقد يشكّل أمراً بالغ الأهمية ولا يمكن التقليل من شأنه، إذ إنّ معظم الدول الأوروبية والعربية والغربية التي يتعامل معها لبنان تؤكد استعدادها لتقديم الدعم بعد تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد، الأمر الذي يعيد الثقة في تعامل المجتمع الدولي معه».

وتوضح المصادر نفسها أنه «فيما يتعلق بتصريحات المبعوثة الأميركية حول وجود بدائل أخرى غير صندوق النقد، والرغم من الأهمية الكبيرة التي يمتلكها الصندوق، إلّا أن هناك خيارات أخرى، ولدى لبنان فرصة لإنجاز إصلاحاته الداخلية بنفسه، بالإضافة إلى تعديل موازنته، وذلك بالتزامن مع وضع خطة مالية واضحة وآلية فعالة لتحصيل الضرائب بعيداً عن صندوق النقد».

في المحصلة، يُعدّ التعاون مع صندوق النقد الدولي خطوة ضرورية للبنان في سبيل الخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة. غير أن نجاح هذا المسار يتوقف على جدّية الدولة اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، ومكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية. فبدون إرادة سياسية حقيقية وتعاون فعّال بين مختلف القوى، ستبقى الوعود حبراً على ورق، وسيظل المواطن اللبناني يدفع ثمن المماطلة والتأجيل.