اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ٢ أيار ٢٠٢٥
في بلادٍ باتت فيها المؤسسات تسير على وقع الترقيع والتأجيل، تبدو الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان كمرآة مشروخة تعكس واقعاً مأزوماً ومراوِغاً. فهي ليست فقط استحقاقاً محلياً دورياً، بل اختبارٌ فعلي لنبض الحياة الديمقراطية في أدق تفاصيلها، ولصورة الدولة المصغّرة في كل بلدة وقرية. ومع ذلك، ومنذ سنوات، حُبِست هذه الانتخابات في أدراج التأجيل المتكرر، تحت ذريعة الظروف الاقتصادية والأمنية، وكأن المواطن فقد حقه في المحاسبة والمشاركة بحكم الطوارئ الدائمة.
في المقابل، إذا كانت البلديات تُعَدّ الإدارة القاعدية الأولى والأساس الفعلي في هندسة حياة الناس اليومية، فإن غياب الرقابة الجدية على العملية الانتخابية، وما يتفرّع منها من إنفاق انتخابي، وإعلانات ممولة، وعمليات شراء أصوات، يُفرغ هذه الانتخابات من معناها الديوقراطي ويحوّلها إلى بازار محلي بامتياز. أين هي الشفافية؟ وأين هو القانون؟ ولماذا لا توجد هيئة إشراف خاصة بالانتخابات البلدية كما هو الحال في الاستحقاقات النيابية؟
في ضوء ما تقدم، فإن قانون البلديات الصادر عام 1977، الذي ما زال يُطبّق حتى اليوم، يبدو وكأنه وثيقة تعود إلى زمنٍ آخر، لم يشهد بعد الطفرة التكنولوجية ولا عاصفة الإعلام الرقمي ولا حتى تطور مفهوم الشفافية والمساءلة. لا يوجد فيه نصّ واضح بشأن ضبط الإنفاق الانتخابي، ولا حول الشهادات الأكاديمية للمرشحين، ولا حتى ما إذا كان يلحظ ضوابط للإعلانات المدفوعة أو الحملات عبر الإنترنت. وكأننا أمام لعبة تُمارَس بقواعد من زمن الحرب، في واقع يتطلب معايير دولة حديثة.
في جميع الأحوال، السؤال الذي يتكرر في صالونات السياسة والناس على السواء: لماذا لا تكون هناك هيئة إشراف مستقلة تراقب الانتخابات البلدية؟ من يرصد خروقات القوانين؟ من يُمسك بيد المرشح حين يشتري صوته تحت الطاولة أو فوقها؟ وإذا كانت البلديات هي النواة الأولى للحوكمة، فهل يُعقل أن تُترك فريسة لمزاج الأحزاب والعائلات والطوائف والمال السياسي؟
بناء على ذلك، إنها انتخابات بحجم الوطن، لكنها تجري، إن جرت تحت سقف غائم لا يُفرّق فيه المواطن بين تمثيل حقيقي وتمثيلٍ صوريّ. لذلك، لا بد من مقاربة جدية، تعيد النظر في القانون البلدي، وتضع قواعد وآليات رقابة صارمة، تنقل هذه الانتخابات من خانة الزبائنية إلى فضاء المواطنة. فإما أن تكون البلديات نموذجاً مصغّراً عن دولة القانون، أو تبقى مجرد واجهة محلية لعطب النظام الأكبر.
من جهة أخرى، وبعد تأجيلٍ طال لسنواتٍ بفعل الأزمات المتلاحقة، تنطلق في شهر أيار الانتخابات البلدية والاختيارية في جميع المحافظات اللبنانية، وكأن شيئاً من الاستحقاق الديمقراطي عاد إلى الحياة، ولو متأخراً. التحضيرات قائمة، المرشحون والمرشحات بدأوا حملاتهم، والماكينات الانتخابية تسابق الزمن، لكن ما غاب حتى اللحظة هو العنصر الأهم: الرقابة.
فمن يراقب؟ ومن يضمن أن هذه الانتخابات ستمر وفق الأصول، بعيداً عن المال السياسي والضغوط العائلية والطائفية والحزبية؟ هل من جهة مستقلة تشرف على نزاهة هذا الاستحقاق كما هو الحال في الانتخابات النيابية؟
تبقى الحقيقة واحدة وثابتة وهي أن البلدية، كما يقال، 'إن صلُحت، صلُحت معها البلدة'، وإذا فسد هذا الجسم الصغير، فسدت معه الإدارة، وتراجعت الخدمات، وانهارت الثقة، وتمّ تفريغ البلدة من روحها. من هنا، فإن غياب الرقابة ليس تفصيلاً، بل ثغرة بنيوية تهدد مصداقية هذا الاستحقاق. فمتى يتم الاعتراف بأن الرقابة ضرورة، لا خياراً، وبأن الدولة التي تدّعي الديمقراطية لا بد أن تؤمن آليات رقابية صارمة، حتى في أصغر الصناديق؟
غياب هيئة إشراف على الانتخابات البلدية: فجوة قانونية واضحة
يوضح المحامي بالاستئناف والدكتور في القانون الدولي سلام عبد الصمد لـ 'الديار' انه 'لا توجد هيئة إشراف على الانتخابات البلدية والاختيارية على غرار ما هو معمول به في الانتخابات النيابية، بل هناك فقط غرفة عمليات تتولى مراقبة سير العملية الانتخابية، ومعالجة مختلف المشكلات الأمنية والتقنية والإدارية التي قد تطرأ خلال هذا اليوم'.
ويضيف: 'من المؤكد أن وجود هيئة إشراف مشابهة لتلك التي تُعنى بالانتخابات النيابية يُعتبر ضرورة، غير أن المسألة لا تقتصر فقط على هذه الهيئة، بل إن ما نحتاج إليه هو تعديل شامل لقانون البلديات. فقانون عام 1977، رغم بعض التعديلات الطفيفة التي أُدخلت عليه، لم يعد مناسباً لواقعنا الحالي. ذلك القانون صُمم لمرحلة مختلفة تماماً، بينما نحن اليوم في عام 2025 نعيش في عالم تحكمه الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والتفاعل عبر الإنترنت'.
مرسوم قديم في زمن رقمي
ويتابع: 'لقد تغيّر المجتمع، وتبدّلت تطلعات الناس وحاجاتهم، وأصبحت البلديات اليوم تتعامل مع مجتمعات محلية أكثر وعيا وتطلبا. ولذلك، لا بدّ أن يواكب القانون هذه التحولات، لا أن يبقى سجين مرحلة ما قبل نصف قرن. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فالثغرات عديدة، والمخالفات كثيرة ولا تُحصى'.
من يراقب المخالفات الانتخابية في ظل غياب هيئة رقابية فعلية؟
ويطرح عبد الصمد تساؤلاً جوهرياً: 'من يتولى فعليا مهمة قمع التجاوزات؟ الجواب أن وزارة الداخلية تضطلع بهذه المهمة من خلال غرفة العمليات التي تتلقى الشكاوى وتحيلها إلى القوى الأمنية، إلى جانب لجان القيد والأقلام. لكن، هل وردت هذه الآليات بشكل تفصيلي في القانون؟ الجواب: لا. هل هناك نصوص واضحة عن الإنفاق الانتخابي البلدي؟ أيضًا لا'.
ويشير الى أن 'التعامل يختلف من بلدية كبرى إلى أخرى صغرى. فبلديات عظمى مثل بيروت وطرابلس وصيدا وزحلة، لها خصوصيات متفردة عن بلديات القرى البسيطة. كما أن الإجراءات المتعلقة بتقديم الترشيحات، وإدارة الحملات الانتخابية، والصمت الانتخابي، وآلية الاقتراع، كلها جوانب لم تُعالج بشكل واضح ومتكامل في القانون. وهذا ما يجعل نزاهة الانتخابات عرضة للشك'.
ضرورة إصلاح نظام البلديات: نزاهة الانتخابات في الميزان
ويؤكد أن 'وجود هيئة تشرف على الانتخابات البلدية أصبح ضرورة، لا رفاهية، بحيث يمكنها ان تضبط الإنفاق الإعلامي، وتراقب الرشاوى، وتضمن سلامة العملية الانتخابية من بدايتها حتى إعلان النتائج، بما يساهم في إنتاج مجالس بلدية تعبّر عن تطلعات المواطنين. فالبلدية اليوم تشكّل العصب الإنمائي والاجتماعي، وهي سلطة بديلة عن غياب الحكومة في النطاق المحلي. لكن أين نحن من هذا التصور؟'.
بلديات لا تعمل، ومرشحون من دون كفاءة... أين المعايير؟
ويكشف ان 'هناك مناطق لا بلديات فيها، وأخرى بلدياتها لا تقوم بأي دور فعلي. كما أن بعض المرشحين لا يجيدون سوى القراءة والكتابة، بينما هناك دول تدقق حتى في شهادات الدكتوراه (PhD) وتتحرى مصدرها وجامعتها! فهل يُعقل ألا يكون لدينا أي معيار أكاديمي أو إداري واضح للمرشحين؟ هذا خلل لا يمكن قبوله ويجب معالجته فورا'.
ازدواجية الصلاحيات تعرقل العمل البلدي: مثال العاصمة!
ويبيّن ان، 'هناك خللاً آخر في توزيع الصلاحيات بين المجلس البلدي ورئيس البلدية، إذ لا أرى جدوى من هذا الفصل، لأنه يؤدي إلى تضارب في الصلاحيات. وما يحدث في بيروت يعد مثالاً واضحاً، إذ إن المحافظ يرأس السلطة التنفيذية، بينما يتولى رئيس البلدية السلطة التقليدية، ما يؤدي إلى تعطيل الأداء البلدي الفعلي'.
نحو بلديات كحكومات مصغّرة: اللامركزية الإدارية هي الحل
ويختم عبد الصمد بالتأكيد على أن 'البلدية حاجة ملحة وضرورية، لأن الحكومة المركزية غير قادرة على متابعة شؤون المواطنين في الأرياف والمناطق النائية. البلدية هي من تنشئ الجامعات والمستشفيات، وهي التي تتابع حاجات الناس وتنجز معاملاتهم. لذلك، يجب أن تتحوّل البلديات إلى حكومات مصغّرة، ضمن إطار اللامركزية الإدارية، بما يضمن استقلالا مالياً وإدارياً وإنمائياً واقتصادياً، ويعزز استقرار المجتمعات والأمن الغذائي والاجتماعي في البلاد'.