اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ٢ نيسان ٢٠٢٥
في 13 تموز من العام 2007، كنت جالساً في مكتبي في الطبقة 19 من 'برج زامانْسكي' التابع لجامعة السوربون في باريس. هذا البرج الذي يبلغ ارتفاعه 90 متراً يحمل اسم عالِم الرياضيات مارك زامانْسكي، الذي شغل منصب عميد كليّة العلوم في السوربون بين العامين 1963 و1970. إنه مكان رائع للعمل لأنّه يطلّ على أجمل المعالم الباريسية كنهر السين وكاتدرائية نوتردام أو البانتيون، حيث تدفن كبار الشخصيّات الفرنسية مثل فولتير وفيكتور هوغو وماري كوري.
يومذاك تلقيّتُ عبر البريد الإلكتروني دعوةً من وزارة التعليم العالي والبحوث العلميّة لدولة الإمارات العربيّة المتحدة، للمشاركة في 'مهرجان المفكرين' الثاني المنوي عقده في تشرين الأول من العام 2007. فقبلت الدعوة فوراً لإدراكي زخم الحركة الثقافية والنهضة الفكرية في هذه الدولة.
اليوم الأوّل لهذا المهرجان جمعَ حوالى 20 عالِماً من الحائزين جائزة نوبل وأكثر من 150 من المفكرين والباحثين في مجالات العلوم الطبيعيّة، الفيزياء، الكيمياء، الطبّ، الفلسفة، القانون، الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات. لقد أتاح هذا المهرجان للمشاركين الحديث عن قضايا تتعلّق بالبيئة والصحة العامّة ودور المرأة والإبداع العلمي والفنّي والعولمة. كذلك تطرّق إلى التعليم ودور الإعلام في التحوّلات المستقبليّة وكلّ ما يعوق تقدم المجتمع.
عُقدت عشر حلقات حواريّة وورش عمل على مدى يوميْن، ترأس كلّاً منها أحد حائزي جائزة نوبل. ما لَفَتني في تلك الندوات هو حضور نحو 150 طالباً وطالبة من مختلف الثانويات والكليّات في دولة الإمارات. لقد أُعْجِبتُ بمستواهم الفكريّ من خلال مداخلاتهم وطرح أسئلتهم. لقد أدْرَكت الإمارات العربيّة المتحدة أن التعليم هو المفتاح الفعلي للنهوض بالمجتمع.
لست في واردِ ذكر أسماء العلماء الموجودين آنذاك في أبو ظبي. إلاّ أن أقربهم إليّ كان عالم الفيزياء الأميركي موراي جيل – مان Murray Gell-Mann الحائز جائزة نوبل للفيزياء عام 1969 وهو في الأربعين من عمره. يرتبط اسم هذا العالم باكتشاف جُسَيْمات 'الكْوارْك' التي تُكوِّن البروتونات والنيوترونات الموجودة في نواة الذرّة. إنّ اكتشاف هذه المكوّنات الأساسيّة تعتبر علامة فارقة في تاريخ الجهد المستمرّ لفهم القوانين الفيزيائية التي تسود أنحاء المعمورة .
لا أزال أذكر مداخلاته الشائقة، وشغفه بالبحث، وتواضعه، وقربه من الطلاب، وبسمته الدائمة. كان نجم 'مهرجان المفكرين' من دون منازع. لقد رحل العام 1920 عن عمر يناهز التسعين تاركاً وراءه إرثاً علميّاً ثريّاً.
بالعودة إلى باريس، من البديهيّ القول إنّ العاصمة الفرنسيّة التي تُلقّب غالباً بعاصمة الأنوار كانت طوال قرون مركزاً للمفكرين والعلماء والفلاسفة. وهي إلى اليوم مصدر إلهام للمبدعين. إنّما ما شاهدتهُ في أبو ظبي كان يُبشّر بقيام مجتمع منفتح ومتقدم جدّاً. إنّ أبو ظبي أصبحت على مرّ السنين مركزاً رئيسيّاً للمفكرين والمثقفين، وهذا ما عزّز دورها عاصمةً ثقافيةً وفكريةً في المنطقة.
غادرتُ أبو ظبي ليل 25 تشرين الأوّل من العام 2007. ولم أعُدْ إليها ثانية. علمًا بأنّ آخر 'مهرجان للمفكرين' أُقيمَ فيها حصل في العام 2011، لكنّها واصلَتْ استضافة العديد من الفعاليّات الفكريّة والثقافيّة والكثير من المؤتمرات التي تجمع المفكرين العالميّين وصانعي السياسات.
لبنان، اليوم، مدعوّ أكثر من أي وقت مضى إلى إطلاق مهرجانات ومؤتمرات فكريّة بغية درس أزماته واستنباط حلول على قاعدة علميّة وإحداث تغيّرات في المجتمع. ولا مناص من الشروع في خطواتٍ تجعل من الاختلاف والتنوّع ثروةً للمجتمع، إذ ثمّة حاجة إلى خطط عملٍ تدعم احترام الإنسان الآخر المختلف وقبوله، عبر التعرّف عليه وعلى ثقافته. إنها خارطة طريق لتحقيق الالتقاء والتعايش.
للمقارنة، استُحدثت في العام 2016 وزارة جديدة في الإمارات سُمّيت 'وزارة التسامح والتعايش'، هدفها تعزيز التزام الدولة القضاء على التعصّب الإيديولوجي والثقافي والديني في المجتمع. إن مفهوم التسامح والتعايش ليس من المسلّمات فحسب، بل هو ايضاً قيمة مهمة يجب تنميتها وصقلها ونشرها والحفاظ عليها، عن طريق العمل المشترك والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع والفاعليات وصانعي القرار.
(*) نائب رئيس جامعة السوربون سابقاً