اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٠ أيلول ٢٠٢٥
لم تكن الأرثوذكسية يومًا طائفة بالمعنى الشائع، بل عرفناها كنيسة، والفرق بين الاثنين جوهري.
فالكنيسة، بحسب المفهوم المسيحي، هي جماعة المؤمنين المدعوّين من الله ليحيوا تحت سلطانه، وهي الترجمة الدقيقة للكلمة اليونانية إكليسيا، التي تعني الجماعة أو المجمع. أما الأرثوذكسية، فهي كلمة يونانية أيضًا، مركبة من أرثو أي الصحيح، ودوكسا أي الرأي أو الإيمان، لتدلّ على الإيمان القويم أو الصواب الإلهي.
في المقابل، تُشير كلمة طائفة إلى جزء من كلّ، أو إلى جماعة تتقاسم معتقدًا أو موقفًا موحّدًا، سواء في الدين أو السياسة أو المجتمع. من هنا، لا يصح اختزال الكنيسة الأرثوذكسية في مصطلح طائفي، لأن الكنيسة ليست فئة منعزلة، بل كيان روحي حيّ، متجذر في التاريخ، وممتدّ إلى الأبدية.
لقد حافظ الأرثوذكس، عبر العصور، على الإيمان القويم، ولم تنجرف كنيستهم – لا سيّما في هذا المشرق – إلى إنشاء أحزاب ذات طابع سياسي أو انقسامي. بل على العكس، كثيرًا ما دفعوا ثمن خطايا الآخرين، وبقوا شهودًا على الحق وسط عالم متقلّب.
فكرهم العقائدي، الذي يتجه دومًا نحو الملكوت، جعلهم يتحررون من التعلق بالمصالح الأرضيّة. وإن كان بعض من انتسب إليهم قد انجرّ إلى أيديولوجيات أو حركات سياسية نُسبت خطأً إلى الأرثوذكسية، فإنما ذلك ناجم عن خلطٍ وجهل، لا عن تعليم كنيستهم.
تاريخيًا، كانت كل محاولة لربط الأرثوذكسية بجماعة أو حزب، محكومة بالاندثار. حتى في الحرب اللبنانية، لم يظهر للأرثوذكس وجه سياسي موحّد، بل تعددت انتماءاتهم، وكان في هذا التنوع دلالة على وعيهم الحرّ، وفهمهم أن الإنسان مخيّر، لا مسيّر. كما قال المطران جورج خضر:نحن الأرثوذكس، رجال دين كنّا أو علمانيين، نؤمن بفصل الدين عن الدولة. والعلماني له الحق في التعبير، وهو حرّ في السياسة، من دون وصاية من أحد.
لقد كانت النهضة التي قادها خضر ورفاقه في الأربعينيات من القرن الماضي، من لبنان وسوريا، صرخة حياة في كنيسة كادت تغرق في الكثلكة والبروتستانتية. هذه النهضة، لم تُبنَ على معاداة أحد، بل على العودة إلى الينابيع: الصلاة، والأسرار، والكتاب المقدّس، وكتابات الآباء.
نهضويو أنطاكية لم يكتفوا بإصلاح داخل الكنيسة، بل سَعَوا إلى أن تكون الكنيسة شريكة في بناء حضارة الإنسان، عبر الفكر، والفن، والأدب، الذين يحملون فرادة الرؤية الأرثوذكسية للإنسان والعالم.
كان همّهم الأساسي أن يتجسد الإيمان في الحياة اليومية: في استقامة العيش، وخدمة الآخر، والمحبة الفاعلة. ولذلك صُنّف كثيرون منهم ضمن تيارات اليسار فقط لأنهم وقفوا إلى جانب الفقراء والمظلومين، فيما لم يكن تحركهم سوى امتداد طبيعي للإنجيل.
لم يكن التطرّف يومًا طريقًا للعبادة النقية في الفكر الأرثوذكسي. بل هو، كما يؤمن الأرثوذكس، جرح يصيب جوهر الإيمان، ويحوّل الدين من رسالة خلاص إلى أداة تعصّب وفرقة. ولهذا، كانت الأرثوذكسية، منذ بداياتها، ترفض الانغلاق، لا باسم الانفتاح الساذج، بل باسم الحقيقة التي تحرر.
قد يتّهم البعض الأرثوذكس بالتعصب، لكن المطران خضر كان يرد دائمًا:نحن متمسكون، لا متعصبون. فالتعصب وليد الجهل، أما التمسك فنتاج الفهم والتعقّل.
وقد عبّرت كنيسة أنطاكية، منذ عقود، عن حاجتها لتجسيد الوحدة الأرثوذكسية التي نعيشها سرّيًا في الإفخارستيا، في واقع ملموس. من هنا، كانت رائدة في التعاون الأرثوذكسي، وساهمت بفعالية في تأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط، وفي الحوار مع الكنائس الشقيقة، ومع المسلم الشريك في المواطنة، عبر تأسيس مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في البلمند، وسواها من مبادرات الانفتاح.
لقد أثبتت الكنيسة الأرثوذكسية أن الإيمان الأصيل لا يُعارض العقل، ولا يخاصم الآخر، بل يسعى إلى الحقيقة بالمحبة، ويعمل على بناء الإنسان، لا تحطيمه.
في الختام، الأرثوذكسية ليست هوية طائفية، بل دعوة إلهية إلى القداسة.نهضتها ليست انفعالًا وقتيًا، بل مسيرة متجددة نحو وجه المسيح.وتشدّدها ليس تعصّبًا، بل أمانة للحق.ورفضها للتطرّف ليس مواربة، بل حماية للإيمان من أن يُشوَّه باسم الدين.
فالمسيح لم يأتِ ليُنشئ طائفة من الأتباع، بل ليقيم ملكوتًا في القلوب، يقوم على المحبة، والحق، والحرية.هذه هي الأرثوذكسية، وهذا هو فكرها ونهجها.