اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٨ كانون الأول ٢٠٢٥
تمثّل أعمال دينا ديوان (Dinah Diwan) تقاطعاً عميقاً بين الفن والذاكرة والمكان والأنوثة، وهي بالفعل قريبة جداً في روحها وأدائها من الأعمال المطرّزة. فهي من أبرز الفنانات اللبنانيات اللواتي حوّلن الخريطة والذاكرة الحضرية إلى مساحة نسيجية شعرية - سياسية في آنٍ معاً. فماذا عن مشروعها الأشهر «Wandering City»؟
ولدت دينا ديوان في بيروت، وهاجرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها ظلت تحمل المدينة كجرحٍ وكحكاية داخل أعمالها. ما يميزها هو أنها لا ترسم المدينة، بل تُطرّزها، كأنها تعيد خياطتها لتمنحها تماسكاً بعد التمزّق. في مشروعها الأشهر «Wandering City» (المدينة التائهة)، استخدمت القماش والخيط والخريطة كمكوناتٍ رمزية لبحثٍ في معنى الانتماء، الفقد، والذاكرة الجمعية. في «Wandering City»، لا تظهر بيروت بوصفها مشهداً بانورامياً أو صورة فوتوغرافية، بل كبنيةٍ ماديةٍ تُحاك على القماش. الشوارع تُطرّز بخيوط دقيقة، الأحياء تُحدد بالألوان، والتواريخ تُخاط أحياناً إلى جانبها، في تزاوج بين الخرائطية والهشاشة الإنسانية.
كأن ديوان تقول إن الخريطة ليست علماً بل جلداً؛ كل غرزة تمثل أثراً بشرياً، وكل خطٍ على القماش طريقاً سال فيه الخوف أو الأمل. إذ تبتكر الفنانة خريطة حميمية للمدينة، لا تحدد المسافات بل الذكريات، لا تُظهر الطرق بل التجارب التي سلكها الناس. ففي خلفية أعمالها يتردد سؤال: كيف نُعيد تمثيل مدينةٍ دُمّرت؟ كيف نحوّل الخراب إلى جمالٍ دون أن ننكر وجعه؟
التطريز عند دينا ديوان هو الوسيط البطيء، الصامت، الجسدي. التطريز عند ديوان ليس زخرفةً بل زمنٌ متجسّد. إنه الفعل المعاكس للدمار السريع: كل غرزة بطيئة تقاوم السرعة التي هدمت المدينة. إذ يصبح العمل الفني شهادةً على الاستمرار، على أن اليد تستطيع أن تُرمّم ما مزّقه الانفجار والسياسة والنسيان.
تُدرج ديوان أحياناً تواريخ محددة في خريطة بيروت المطرزة، مثل سنوات الحرب الأهلية أو لحظاتٍ شخصية مرتبطة بها. بذلك تمزج بين العام والخاص، بين بيروت المدينة و«بيروتها» الداخلية كل رقمٍ وكل خطٍ في القماش يحمل معنى سردياً فـ«Wandering City» ليست فقط مدينةً تائهة، بل سيرة ذاتية مطرزة، تتنقل بين الطبقات مثل ذاكرةٍ تبحث عن نفسها. إذ تحوّل الخريطة من أداة سياسية لتقسيم المكان إلى قصيدةٍ نسيجية لإعادة امتلاكه. فالخريطة المطرزة هنا ليست أداة سلطة، بل عمل حنانٍ ومصالحة. إذ تستخدم ديوان في بعض أعمالها القماش كامتدادٍ للجسد الأنثوي و كأنها تقول إن بيروت تسكن الجسد كما يسكن الجسد المدينة. كل غرزةٍ هي لمسٌ للجرح. هكذا تتماهى الذاكرة المكانية مع الذاكرة الجسدية، ويتحوّل التطريز إلى حوارٍ بين اليد والمكان، بين المرأة والمدينة. فهل تتصل أعمالها مباشرة بتراثٍ فني نسوي عالمي يرى في الخياطة والتطريز وسيلةً لاستعادة السلطة الإبداعية للمرأة، لكن دون شعارات مباشرة، بل عبر الصمت المادي، عبر النَفَس الطويل للخيط.؟ وهل يمكن القول أن أعمالها تمثل جماليات الخراب الهادئ؟
جماليات أعمال دينا ديوان لا تعتمد على المأساة، بل على الهشاشة المضيئة. فألوانها ليست صارخة، بل مائلة إلى الرماديات، البيج، الأزرق الفاتح، كأنها آثار ضوءٍ خافت على جدارٍ قديم. هذه الألوان لا تصرخ بل تتذكر. إنها لا تقدّم المدينة كأنقاض، بل كنسيجٍ لا يزال يتنفس رغم كل شيء، كجسدٍ مصابٍ لكنه لم يمت. فهل تحمل دينا ديوان موقفاً سياسياً ناعماً. الخريطة المطرزة هي ضدّ الخريطة الرسمية. إنها خريطة الحميميّ، لا خريطة الدولة؟
كل غرزة تُعيد تعريف الحدود ليس بحسب القوة، بل بحسب العاطفة. فحدود المدينة هنا تُرسم بما تتذكره الفنانة من روائح، أصوات، وبيوتٍ اختفت.بهذا، يصبح التطريز وسيلةً لمقاومة النسيان المؤسسي، ولإنتاج سردٍ مضادٍ للتاريخ الرسمي. إذ يتضح اهتمامها بالطبقات المادية والرمزية للذاكرة - الورق، القماش، الحبر، الخيط - بوصفها مستويات من الوجود، مثل طبقات المدينة نفسها. فهل هذا هو التحالف بين الخيط والذاكرة، بين النسيج والمكان، بين اليد والمدينة؟ وهل تستخدم هذا الأسلوب كوثيقةٍ حسّية، كوسيلةٍ لإعادة ترميم الزمن؟











































































