اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٢٣ نيسان ٢٠٢٥
خاص الهديل…
قهرمان مصطفى
أصبح العالم في زمنٍ تتراكم فيه الحروب كما تتساقط أوراق الخريف، ويعلو فيه صوت السلاح فوق صوت الضمير، وفوق كل هذا، غاب عنه من أيام رجلٌ كان نادراً في حضوره، واستثنائياً في مسيرته: البابا فرنسيس.
رحل عن الدنيا بعد عمرٍ مديد، لكنه لم يمكث في منصبه السامي سوى اثني عشر عاماً (2013–2025). اثنا عشر عاماً كانت كفيلة بأن تترك أثراً لا يُمحى في قلب الكنيسة، وفي ذاكرة الإنسانية؛ حيث أمضى ثلاثاً منها طائفاً حول العالم يحمل رسائل سلام، وثلاثاً على سرير المرض، لكن كلماته استمرت تهتف حتى لحظاته الأخيرة: 'أوقفوا الحرب في أوكرانيا… أوقفوا المجزرة في غزة'.
لكن فرنسيس لم يكن مجرد بابا؛ لقد كان رسولاً للسلام، ومبشراً بأخوّة يتجاوز فيها الدين الحدود، ويتقدّم فيها الإنسان على المؤسسة؛ وهذا ما كا يميّزه عن أسلافه أنه لم يأتِ من أوروبا، بل من الأرجنتين، من عمق أمريكا اللاتينية، من بيئةٍ تعرف تماماً معنى الفقر، وقسوة الحياة، واحتياج الناس لصوت يذكرهم بأنّهم بشر.
منذ لحظة انتخابه، بدا مختلفاً.. لم تملأه الزينة البابوية، بل أرهقته مسؤولية الزمان والمكان. فكان أكثر ما شغله أمران: السلام في عالمٍ مضطرب، والعلاقة مع الإسلام.. نعم، قالها صريحة: 'لا سلام في العالم بدون سلام مع الإسلام'. لم تكن كلمات دبلوماسية، بل عقيدة حملها، وجعلها خريطة طريق له وللكنيسة.
أكثر من ثلث رحلاته كانت إلى الدول الإسلامية: مصر، المغرب، تركيا، إندونيسيا، بنغلادش، وأخيراً الإمارات التي احتضنت وثيقة الأخوّة الإنسانية في 4 فبراير 2019؛ تلك الوثيقة التي وقّعها إلى جانب شيخ الأزهر أحمد الطيب، وبرعاية صاحب الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، فصارت يوماً عالمياً للحوار، وأملاً مشتركاً لعالمٍ يتوق إلى الإنسانية المفقودة.
كان يعرف جيداً أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، لذلك واجه صلابة المحافظين في الكنيسة، وسعى لإصلاح الكهنوت، وأعاد النظر في أدوار النساء داخل المؤسسة. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل خرج إلى العالم يصرخ من أجل الفقراء، واللاجئين، والمظلومين، وضحايا العنف الديني والسياسي.
رسائل البابا فرنسيس لم تتوقف، لا في خطاباته، ولا في رحلاته، ولا حتى في وثيقة الأخوة؛ كانت رسالة واحدة تتكرر: العالم ينهار لأنه نسي إنسانيته، وما لم نعد ترتيب أولوياتنا نحو الحوار، والمصالحة، والتراحم، فإنّ هذا الانهيار لن يتوقف.
ومع رحيله، خسر العالم صوتاً كان ينطق بما تخشى المؤسسات قوله، وتخشاه القوى الكبرى. خسر الفقراء صوتاً لهم في الفاتيكان. وخسر المهجّرون والمظلومون راعياً كان يذكرهم في كل خطاب، ويذهب إليهم لا ليعظهم بل ليشاركهم الألم.
فرنسيس رحل… لكن رسالته تبدأ الآن.