اخبار لبنان
موقع كل يوم -هنا لبنان
نشر بتاريخ: ٢٦ نيسان ٢٠٢٥
الوداع الذي طال انتظاره
في السادس والعشرين من نيسان عام 2005، تنفّس لبنان الصعداء، وهو يودّع آخر جندي سوري غادر أرضه عبر بوابة المصنع، بعد احتلال استمرّ قرابة ثلاثين عاماً تحت رايات شتى: من قوات ردع عربية إلى وصاية كاملة صبغت كل تفصيل لبناني باللون الدمشقي.
خرج الجيش، لكن جراح المرحلة السورية بقيت، محفورةً في ذاكرة المعتقلين، وعائلات المفقودين، وأبنيةٍ كانت شاهدة على الذلّ والقهر.
حين سقط قناع 'القوات الشرعية'
كان انسحاب الجيش السوري أشبه بزوال إمبراطورية وهمية بُنيت على الرعب والتسلط. فبين ليلة وضحاها، أفرغت المقرات من ضباطها، وتحولت المراكز الأمنية إلى أطلالٍ سوداء تتناثر فوقها شعارات الولاء الباهتة.
اعتقد كثيرون أن النظام السوري، الذي رسّخ وجوده العسكري في لبنان بشعار 'ضروري وشرعي ومؤقت'، لن يغادر أبداً. غير أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري فجّر الانتفاضة الشعبية الأوسع، وأطلق سلسلة ضغوط دولية لم تترك أمام دمشق سوى خيار الانسحاب السريع والمذل.
الجرح المفتوح – المفقودون والمعتقلون
مع خروج الجيش، توجّهت الأنظار إلى ملفات أكثر مرارة: المفقودون في السجون السورية. آلاف العائلات اللبنانية التي لطالما دفعت أموالاً طائلة عبر سماسرة الأمل، بحثاً عن خبر عن أبنائها، وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام الحقيقة المُرّة: لا عودة لهؤلاء، لا تواصل، ولا إجابة.
حتى اليوم، لم يُغلق هذا الجرح. وحدها أرصفة الانتظار في بيروت وطرابلس وصيدا تواصل البكاء الصامت، حاملةً أسماءً كانت يومًا شعلة مقاومة أو أحلام شباب اختطفهم النظام السوري ولم يعيدهم.
من جلاء الجيش إلى زحف النزوح
لكن المشهد الأكثر قسوة، هو أن الانسحاب العسكري السوري لم يكن نهايةً للارتباط القسري بين البلدين. فمع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجدت أرض لبنان نفسها مرة أخرى ساحةً مفتوحة، هذه المرة لا لدبابات الاحتلال، بل لموجات النزوح البشري.
نزوح بدأ تحت عنوان إنساني، ثم تحوّل إلى أزمة كبرى تهدد الكيان اللبناني الديموغرافي والاقتصادي والسياسي. اليوم، أكثر من مليون ونصف نازح سوري ينتشرون على كامل الجغرافيا اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب، من البقاع إلى العاصمة بيروت، وسط أزمة لا حلّ يلوح لها في الأفق.
سقوط الدولة السورية وانكشاف الأوهام
في الثامن من كانون الأول 2024، أعلنت نهاية الدولة السورية كما كانت معروفة منذ عقود. سقط النظام الذي زعم أنه 'قلعة الممانعة'.
ورغم هذا السقوط، لم تتحقق الوعود الدولية بإعادة النازحين.
مشروع تغيير ديموغرافي مريب
ما يزيد الطين بلّة، هو المعلومات المتواترة عن مشروع تهجير فلسطينيي غزة نحو الأراضي السورية الفارغة، وتوطين السوريين في لبنان، بما يحمل من مخاطر تفجير صراعات أهلية وطائفية تهدد بنسف النسيج الوطني اللبناني.
هكذا، تحوّل النزوح من حالة إنسانية إلى سلاح جيوسياسي بيد قوى الخارج. وبدل أن ينال لبنان استراحةً بعد انسحاب الجيش السوري، وجد نفسه محاصراً مرة أخرى، ولكن هذه المرة بأدوات أكثر خطورة وأشدّ خبثاً.
بين ذاكرة الخلاص ومخاطر المستقبل
عشرون عاماً مضت على الانسحاب السوري، ولم يشفَ لبنان بعد من تبعات الاحتلال. تغيرت الوجوه، تبدلت الشعارات، لكن الجرح السوري، بأبعاده المختلفة، لا يزال ينزف.
رحل الجيش، سقط النظام، لكن بقيت ظلاله الثقيلة جاثمةً فوق أرض الأرز، سواء عبر ملف النازحين، أو عبر صراعات النفوذ.
في ذكرى الانسحاب، يعود السؤال بقوة: متى يتحقق الجلاء الحقيقي؟ متى يصبح لبنان سيد نفسه بالكامل، بعيداً عن حروب الآخرين وأحقادهم ومشاريعهم المشبوهة؟