اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
كتب صلاح سلام في 'اللواء':
برحيل زياد الرحباني، يخسر لبنان والعالم العربي واحداً من أبرز رموزه الثقافية والفنية، فناناً استثنائياً جمع بين الإبداع الموسيقي، والوعي السياسي، والالتزام الاجتماعي، في مسيرة استثنائية امتدت نصف قرن، ولم تشبه إلا نفسها.
زياد لم يكن فقط نجل فيروز وعاصي الرحباني، بل كان امتداداً متمرداً لتجربة الرحابنة، أضاف عليها طابعه الخاص، وخرج منها ليقول ما لم يقله أحد. منذ أول ألحانه لوالدته «سألوني الناس»، خطّ لنفسه طريقاً مستقلاً، لا يجامل، لا يهادن، ولا يخشى المحظور. وفي مسرحياته، التي تحولت إلى مرآة للواقع اللبناني والعربي، أعاد تعريف العلاقة بين الفن والسياسة والمجتمع.
من «نزل السرور»، إلى «بالنسبة لبكرا شو؟، و«فيلم أميركي طويل»، شكّل المسرح عند زياد مساحة للبوح، للسخرية، للحرية، وللتحريض على التفكير. كان يكتب باللهجة المحكية، ويغوص في تفاصيل الحياة اليومية، ليكشف عورات النظام الطائفي، ويطرح أسئلة كبرى عن العدالة والمساواة والانتماء. لم يكن الفن عنده ترفاً، بل فعلاً يومياً لتغيير الواقع، أو على الأقل فضحه، بعدما أدرك صعوبة التغيير.
أما موسيقاه، فكانت أشبه بفسيفساء ثقافية، جمعت بين الجاز والموسيقى الشرقية، وبين الكلاسيك والبلوز، في تركيبة جمالية فريدة. منح الأغنية اللبنانية بُعداً جديداً، حيث الكلمة العميقة تلتقي اللحن الذكي، والتوزيع المبتكر يخدم المعنى لا الشكل. وكان عازف بيانو بارعاً، وملحناً يدهش في كل مرة، لا يكرر نفسه، ولا يركن إلى النجومية.
في السياسة، لم يُخفِ زياد انحيازاته، فكان صوته عالياً في زمن الصمت، مثيراً للجدل أحياناً، وصادقاً دائماً. إنحاز للفقراء، للناس العاديين، للبسطاء الذين رأى فيهم جوهر الوطن الحقيقي. لم يرفع شعاراً لم يؤمن به، ولم يتخلَّ عن قناعاته حتى وهو يدفع ثمنها من رصيده الشعبي.
رحل زياد، لكن إرثه باقٍ: في المسرح، في الأغنية، في الوعي الجمعي. باقٍ في ضحكة ساخرة أطلقها فوق الخشبة، في نغمة حزينة تعزفها البيانو، وفي كلمات لا تزال تصفع الزيف السياسي، والنفاق الإجتماعي. هو فنان لم يكتفِ بأن يكون صوت جيله، بل صار ضميره.
وكما قال ذات مرة في إحدى مسرحياته: «البلد ماشي عَطريق مش واضح… بس نحنا رايحين معو». ها هو يرحل في زمن ضبابي، تاركاً لنا بصمته شاهداً على الطريق الغامض الذي نتخبط في منحدراته.