لايف ستايل
موقع كل يوم -في فن
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
في عالم السينما، نادرًا ما تجد فيلمًا ينجح في الجمع بين القصة الإنسانية المؤثرة والرسالة الفنية العميقة. وفيلم 'ضي' يكسر هذه القاعدة ببراعة فائقة. فبينما يروي لنا حكاية طفل ولد بحالة وراثية نادرة تُعرف بـ 'المهق'، يضيء في الوقت نفسه طريقًا جديدًا للسينما العربية، مؤكدًا أن الفن الحقيقي قادر على تجاوز كل التحديات.
في تناقض غريب أو مفارقة إلهية طبيعية، تدور قصة طفل مولود بحالة وراثية نادرة تُسمى البينو أو المهق. وهي ليست مرضًا بالمعنى المعتاد، بل حالة وراثية تتميز بنقص أو غياب صبغة الميلانين في الشعر والجلد والعينين. يسبب هذا النقص شحوبًا في الجلد والشعر ولونًا فاتحًا للعينين، بالإضافة إلى مشكلات بصرية وحساسية للشمس. وعلى الرغم من عدم وجود علاج لغياب الميلانين، إلا أن هناك طرقًا لإدارة الأعراض والوقاية من المضاعفات.
من سوء حظ هذا الطفل أن يولد لأسرة من النوبة بمصر، حيث سمرة الوجوه معهودة وطيبة القلوب مشهودة. ورغم ذلك، كان التعامل مع هذه الحالة مليئًا بالجهل داخل الأسرة والمجتمع، ثم تلا ذلك حالات من التنمر والأذى المزعج من بعض زملائه وحتى مدرسيه، باستثناء مدرسة الموسيقى. لم يسانده إلا المقربون منه في البيت والجيران والمدرسة، فمنهم من عامله بشفقة متناهية، ومنهم من اقتنع بأن لديه إمكانات وقدرات أخرى، مثل موهبته في الغناء بصوت مميز، رغم ما يعانيه جسده من ضعف وتأثره بضوء الشمس الذي يشقيه ولا يشفيه.
ولكن، بفضل من آمنوا به وبقدراته حبًا ووعيًا، وقفوا إلى جانبه دائمًا حتى وقف الجميع مشدودًا ومأخوذًا في اللحظات النهائية للفيلم بعد رحلة عناء وشقاء اختزلها المؤلف والمخرج بعناية شديدة في 48 ساعة. يأخذ الفيلم المشاهد خلال 105 دقيقة منذ البداية وحتى النهاية في حبكة درامية ممتعة. السيناريو القوي والمميز للغاية الذي أبدع فيه هيثم دبور يعد حدثًا غير متكرر، وقد عبر عنه المخرج المبدع كريم الشناوي في رؤية إخراجية غاية في التميز أيضًا.
إضاءة الأمل في ظلام اليأس
نسج المخرج نسيجًا دراميًا ناعم الملمس، شديد التعبير والتأثير، تتصاعد أحداثه بين الألم والراحة، وبين الحزن والفرح بتلقائية شديدة، دون نبرة عالية أو مباشرة فجة. لم يترك المؤلف والمخرج ثغرة أو هفوة إلا وقدماها باهتمام بالغ، نادر الحدوث، وبدقة متناهية. لقد أضاف وجود نخبة من كبار النجوم والمشاهير في مشاهد محدودة من الفيلم بهجة ورونقًا ومتعة. كان هؤلاء النجوم بمثابة جواهر ترصع مشاهد الفيلم وتزيد من قوة تأثيره وتألقه. يتقدمهم بالطبع محمد منير، أحمد حلمي، محمد ممدوح، أمينة خليل، محمد شاهين، ولميس الحديدي وغيرهم، دعمًا وإيمانًا بروعة الفيلم وإبداع أبطاله الأساسيين: الطفل بدر محمد من مصر، آسيل عمران من السعودية، إسلام مبارك من السودان، صبري فواز من مصر، محمود السراج من السودان، وحنان سليمان من مصر.
لقد أبدع الجميع دون استثناء في الأداء، ولكن اسمحوا لي أن أميز كلًا من أسيل عمران من السعودية في دور المدرسة، التي أتقنت الأداء باللهجة الصعيدية في دور مميز يحسب لها كثيرًا وطويلًا. وكذلك كانت إسلام مبارك من السودان في دور الأم المعيلة، الصارمة والحازمة والحنونة والطيبة في الوقت نفسه، رغم قسوة الحياة عليها، إلا أنها مثابرة وصامدة أمام كل التحديات. ولعل المشهد الذي جمع بينها وبين أسيل عمران في مشادة داخل القطار يعبر عن قدرة وإحكام كلا النجمتين في التميز والأداء والتعبير.
رغم النهاية السعيدة المتوقعة، إلا أنها جاءت غير تقليدية أو مكررة. كما كانت الأغاني والموسيقى من أهم وأبرز عناصر الفيلم. هذا الإبداع يؤكد أن السينما تسترد عافيتها بقوة عندما يتوفر هذا الزخم الإنتاجي والإبداعي المميز لفكرة جديدة يتسابق النجوم على المشاركة فيها بكل اقتدار وتمكن. ولعل أهم ما يميز هذا الفيلم أيضًا هو نخبة شركات الإنتاج المشاركة في صنعه، بما فيهم مهرجان البحر الأحمر بجدة. لقد قدموا تقييمًا وإنتاجًا سينمائيًا مميزًا لا يقل عن الإنتاج العالمي لأرقى شركات الإنتاج السينمائي على مستوى العالم.
ختامًا.. رسالة أمل لا مجرد فيلم
فيلم 'ضي' ليس مجرد عمل سينمائي آخر، بل هو رسالة فنية متكاملة تؤكد أن الإبداع قادر على تجاوز كل الحواجز. لقد نجح الفيلم في العبور من سينما النخبة إلى قلوب الجماهير، لأنه لم يكتفِ بعرض قصة إنسانية مؤثرة، بل قدمها في قالب فني رفيع المستوى، يجمع بين قوة السيناريو، وعمق الإخراج، وتألق الأداء.
إن هذا الفيلم يمثل نقطة تحول، ليس فقط في مسيرة صناع الفيلم، ولكن أيضًا في السينما العربية ككل، حيث يبرهن أن التميز والوعي قادران على تقديم فن يحترم العقل والوجدان معًا. 'ضي' هو دليل قاطع على أن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى الصخب ليصنع أثرًا، بل يكفيه نور الأمل والإبداع ليضيء دربًا جديدًا لكل من يبحث عن قصة تستحق أن تروى.