اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ١٦ كانون الأول ٢٠٢٤
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.
لا يتوقف أمين عام 'حزب الله' الجديد الشيخ نعيم قاسم، عن تأكيد انتصار حزبه. يقفز فوق معطيات خانقة تحاصره من كل جانب. يتكلم كمن يخاطب نفسه أمام المِرآة، في غرفة كثيفة الظلمة، تخفي عن سمعه وبصره حقيقة ما يجري معه وحوله، وتحفزه على إطلاق العنان لخياله الخصب، الذي يعتقه من ثقل الواقع، والتعويض عن مرارة العجز وألم الفشل. يقنع ذاته بادعاءات تخذلها الوقائع وبشاعة الكارثة، ويلعب دور المنتصر، ولو بالشكل والهيئة، فتخونه لغة الجسد وركاكة العبارة، وشح الدليل ووهن الصوت.
انتصار يُغيِّب كامل مكونات المشهد، لحساب توليفة مصطنعة من فتات إنجازات جانبية، وبطولات متناثرة هنا وهناك، انتصار ما يزال أكثر اللبنانيين عاجزين عن فهمه وهضمه، أو الربط المنطقي بين بنوده وبياناته، انتصار يتحدى بديهيات العقل ومسلمات التفكير العلمي، انتصار يفرض علينا كتابة تاريخ البشرية من جديد، كونه يطرح مفهوما غريباً وغير مسبوق للانتصار، إنتصار يتجاهل بنود الهدنة التي توحي بالاستسلام، والإقرار بالتراجع إلى ما وراء الليطاني، ونزع الشرعية عن سلاحه، ومنع كل طرق تمويله وتسليحه، أضف إلى ذلك الرعاية الأمريكية للاتفاق والوصاية الكاملة عليه. هي بنود تحمل تنازلات بالجملة، كشفت ضحالة ادعاءات القوة، وزيف توازن الرعب، وانهيار الثقة بقدرة سلاح الحزب، وتعاظم القلق والتوجس من حسابات القائمين عليه، وانقلاب مكانة هذا السلاح من كونه مصدر أمن وأمان، إلى أن يكون مأزقاً وجودياً للشيعة، ومشكلة كيانية للبنان.
إعلان الانتصار هذا، لا يعني إسرائيل بشيء. هذا الكيان الذي يشعر أنه مهدد بمحيط لا يمكنه التجانس معه، لا يتحمل تبني الادعاءات الكاذبة والأوهام النرجسية، كونه يعرف أنها منزلقات تسرع في نهايته وزواله. كيان بنى هويته على ادعاءات توراتية، لكن واقعه وإدارته للمعارك، مبنيان على حسابات واقعية وتقديرات موضوعية، ومراجعة دائمة وتقيم مستمر للأداء. كيان بارع في خداع عدوه والتنكيل به، لكنه لا يخدع نفسه ويتقن الاستفادة من اخطائه. إعلان يضعنا أمام مفارقة محزنة: استمرار إسرائيل 'المنهزمة' بانتهاك كامل الأجواء اللبنانية، والعبث في أرض الجنوب بوضح النهار، وتراجع حزب الله 'المنتصر'، من القرى المدمرة بالكامل، وسحب قواته ومقاتليه سراً في عتمة الليل الدامس.
بشارة نعيم قاسم بالانتصار هي للداخل اللبناني. غرضها: القفز فوق مشهد الكارثة، والتقليل من شدة المهانة والدمار، والقتل والتشريد التي حلت ببيئة 'حزب الله'، وطمس فشله في منعه أو حتى التخفيف منه، التغطية على وعود كاذبة وادعاءات قوة مضخمة، وتورط في مهام وحملات عسكرية، تدار بحسابات صبيانية ورهانات غيبية ساذجة، تعميم مزاج مصطنع، يحاصر مشاعر الخيبة والنقمة ويطارد الشكوك، ويقطع الطريق على كل سؤال أو مساءلة. هي بشارة غرضها تنكر 'حزب الله'، للمتغيرات الجوهرية، محلياً وإقليمياً، التي تنسف موازين القوة، وكل المعادلات السياسية والترتيبات الأمنية، التي رسخها 'حزب الله' بفعل استثماره الشرس والمبالغ به، لفائض قوته في الداخل، وباتت الآن في طريقها لتصبح ماض أسود منصرم، ينتظر من يوثق وقائعه ويعتبر من أحداثه.
جاء إعلان الانتصار، مصحوباً باستدعاء مكثف للقديسين والأولياء، ومدججاً بالآيات القرآنية من كل حدب وصوب، في انتقاء لا يخلو من عبثية فكر، وليٍّ متعمدٍ لمعاني هذه الآيات، وإخراجها عن سياقها ومقاصدها، لتخدم بنحو مصطنع ومتعسف، سياقاً ومقصداً غريباً عن طبيعتها وإيحاءاتها، فبتنا أمام وحي غب الطلب، وتأييد إلهي مزعوم، وعودة مكثفة للمعجزات والخوارق بعد انقطاع طويل، وتأكيد حاسم لا يقبل النقاش، بأن 'حزب الله' المسدد بالغيب، بات فائقاً وفوق أن يخطىء وأسمى من أن يذنب، وأرفع من أن يراجع حساباته أو يعيد النظر في الأمور.
يتكلم نعيم قاسم لغة، لا يفهمها إلا خواص المتدينين من الشيعة. لغة خارج التاريخ وفوق الجغرافيا، لغة لا يوجد فيها بشر عاديون يتألمون ويحزنون، بل أناس استثنائيون خارقون، يحترفون القتل وذروة أمانيهم الموت طواعية. لغة لا أوطان فيها، ولا شعب ولا أرض ولا دولة ولا سيادة، بل ولا حياة تقصُد ذاتها، فالكل مسخر، لضرورات الصراع الكوني المهيب، بين الحق والباطل، ووقود لمعركة الخير والشر المستعرة حتى نهاية العالم. لغة تصادر وتعطل كل مصطلحات الشرعية السياسية، والإجماع والرأي العام والتمثيل والعقد الاجتماعي، أي تلغي الدولة والمجتمع والوطن بجرة قلم. لغة تجوف باطن الإنسان، بعد أن تنزع منه قلقه ومحدوديته وخوفه وحزنه وألمه وحبه للحياة والبقاء. لغة تصر على مغايرتها للغة باقي اللبنانيين، وتؤكد المباينة الحادة معهم في القيم ونمط العيش.
إقرأ يضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: محور الممانعة.. نهاية طبيعية لتكوين مصطنع
يظهر نعيم قاسم إيجابية حذرة في التعاون لبناء الوطن وإعماره والإسهام في النهضة الإقتصادية فيه، والحوار الجدي في الاستراتيجية الدفاعية. لكنها كالعادة، إيجابية مغلفة بغموض والتباس متعمدين، كمن يعطيك من جيبك ليأخذ كل ما في جيبك. يعرض علينا انتصاراً، ليبقي سلاحه خارج التداول والنقاش والمساءلة، يريد مقاومة مشروطة بولاية الفقيه، يصر على الثلاثية المشؤومة (جيش، شعب، مقاومة) ليلغي الشعب ويصادر مهام الجيش، يدعو إلى التوافق ليسوغ تعطيل الدستور، ويعلن استعداده للحوار ليكسب الوقت، ويفاجئنا بأسلحة جديدة وساحات جديدة، وتحالفات جديدة وحروب جديدة ودمار جديد، تكون ذروته كل ذلك إعلان انتصار جديد.
لا نريد من 'حزب الله' أن يعلن انتصاره أو هزيمته، نريده أن يستيقظ من سباته الدوغمائي، ويصحو على أرض لا معجزات فيها ويسكنها أناس عاديون جداً. باختصار نريده فقط أن يلغي تمايزه, ويكون لبنانياً مثل باقي اللبنانيين.