اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٨ تموز ٢٠٢٥
د. هبة المُل أيوب
تعتبر الظواهر العلمية أساساً لفهم العالم من حولنا، وتنطلق جميع الدراسات العلمية من محاولة تفسير هذه الظواهر وفقاً لقوانين ونظريات معينة. تختلف العلوم فيما بينها من حيث الظواهر العلمية التي تدرسها، وفي الطريقة التي تتناول بها هذه الظواهر. فإذا قرر الباحث دراسة ظاهرة معينة، ثم كرر دراستها بعد فترة وجيزة، هل سيصل إلى نفس النتائج؟ وهل توجد ضمانة علمية تؤكد صحة النتائج في كل مرة؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا أن نأخذ في الاعتبار عدة عوامل. أولاً، النظرية العلمية التي ينطلق منها الباحث في دراساته لا تتسم بالكمال؛ فالنظريات العلمية دائماً ما تكون قيد التطوير والمراجعة المستمرة. قد تكون هناك نواقص أو تفسيرات غير مكتملة في النظرية نفسها، وهذا يُعدّ جزءاً من طبيعتها. ومن هنا يأتي دور الباحث في صياغة الفروض العلمية والانطلاق بها، مستنداً إلى تلك النظريات، لكنه أيضاً يعترف بنقصانها. فالتكرار في دراسة نفس الظاهرة العلمية لا يعني بالضرورة التوصل إلى نفس النتائج التي توصل إليها العلماء في الدراسات السابقة، حتى وإن تم استخدام نفس الأساليب والمنهجيات.
فالعلوم والتجارب العلمية لا تبدأ دائماً من نفس المسلّمات، ولا يمكن اعتبار هذه المسلّمات بداهة ثابتة. هناك دائماً مساحة للاختلاف في الفهم والتفسير العلمي، وتعتمد النتائج بشكل كبير على الظروف المختلفة التي قد تطرأ خلال التجربة، أو على الأدوات والطرق المتبعة. على سبيل المثال، قد تختلف الرؤية العلمية بشأن نفس الظاهرة اعتماداً على التقدم في الأدوات العلمية المتاحة أو تغيّر الظروف الاجتماعية والبيئية. لذلك، من الطبيعي أن تختلف التفسيرات والنتائج عند إعادة دراسة نفس الظاهرة في وقت لاحق، أو في بيئة علمية مختلفة.
من هنا، يصبح النقاش العلمي بين الباحثين عنصراً أساسياً في تطوير العلم. فالعديد من النظريات التي تم قبولها على مدى سنوات قد تم إعادة النظر فيها وتطويرها، بل وربما دحضها بناءً على الأدلة الجديدة. سعى العلماء، منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، إلى تحليل دراساتهم والنقد المستمر لها بهدف تحسينها. هذا النقد البنّاء هو الذي دفع العلماء إلى إعادة تقييم النتائج التي توصلوا إليها، والمضي قدماً في نقاشات علمية معمّقة. فعند كل خطوة، يطرح العلماء أسئلة جديدة ويبحثون عن إجابات من خلال التجارب والبحث الميداني، ويتبادلون الأدلة والبراهين العلمية.
وعلى سبيل المثال، نظرية النسبية التي قدّمها ألبرت أينشتاين، على الرغم من كونها مبدعة وثورية في زمنها، إلّا أنها لم تكن لتصبح مسلّمة علمية لولا الكثير من الدراسات والتجارب التي أيّدت صحتها، بل ودعمتها في بعض الجوانب. كما أن بعض المفاهيم العلمية التي كانت تعتبر بديهية في الماضي قد تم تغييرها أو تعديلها بناءً على اكتشافات جديدة. هذا التفاعل المستمر بين النظرية والتجربة هو ما يضمن تطوّر العلم.
إن العلماء لا ينتهون أبداً من العمل على النظريات التي يطوّرونها، بل دائماً ما تكون هناك فرصة للتحسين أو التعديل. وهذا ما دفع أحد العلماء إلى القول: «إن الإنسان الغبي هو ذلك الذي يثبت على رأي واحد». أي أن الثبات على رأي واحد دون إعادة النظر فيه استناداً إلى براهين جديدة هو ضد الطبيعة العلمية، التي تقوم على الشك المنهجي والمراجعة المستمرة.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن تكرار الدراسات العلمية، وتمحيص النتائج، يعتبر أمراً حيوياً لضمان دقّة وصحة الفروض والنظريات. فالثقة المفرطة في نتائج دراسة واحدة قد تؤدي إلى سذاجة علمية، بينما السعي المستمر نحو تطوير الأساليب البحثية، وحذاقة الحجج العلمية، وتوسيع نطاق التفكير المتعلق بالتجارب والنظريات، هو ما يضمن تطوّر العلم وموثوقيته. التبجّح بالنتائج أو التراخي في التأكّد منها قد يقود إلى نتائج خاطئة قد تُضلل المجتمع العلمي.
إن التأمّل المستمر في النتائج العلمية والتفكير النقدي حول العلاقة بين النظريات والتجارب هو الذي يفتح آفاقاً جديدة لفهم الظواهر العلمية بشكل أعمق. لهذا السبب، يُعدّ التفكير النقدي والبحث المستمر من أهم الخصائص التي يجب أن يتحلّى بها كل باحث علمي، لأن العلم لا يقتصر على التوصل إلى نتيجة معينة، بل يتطلب الاستمرار في التفكّر، والتشكيك البنّاء، والبحث المستمر عن تحسين ما تم التوصل إليه.
ومن هنا، يتعيّن على الباحث ألا يكتفي بما توصل إليه من قوانين أو مبادئ علمية، بل يجب عليه أن يظل باحثاً دائماً. العلوم جميعها تتطلب الوضوح في الرؤية العلمية، وأن تكون تلك الرؤية مرنة بما يكفي لتتغيّر بما يتناسب مع التطورات التي تطرأ على الأبحاث والدراسات. فالتطورات العلمية مستمرة، والعلماء بحاجة إلى التكيّف مع هذه التغيّرات بشكل دائم.
ومن المهم أن نلاحظ أن الواقع النظري للعلم يختلف عن الواقع التطبيقي. فالواقع النظري يتعامل مع المبادئ والمفاهيم التي يتم تطويرها وتطويرها باستمرار، بينما يتعامل الواقع التطبيقي مع التطبيق الفعلي لتلك المبادئ والنظريات في الحياة اليومية. لذلك، نجد أن النظريات العلمية تتطور بشكل مستمر لتواكب التغيّرات التي تحدث في الواقع، ويجب أن تتسق هذه التطورات مع المعايير والقوانين العلمية المتسلسلة والمتشابكة.