اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٣ حزيران ٢٠٢٥
ينشغل دائما بالجمال، يتبعه حيثما كان، ربما إستوقفه بيت شعر، ربما إستوقفته حكمة سائرة، وربما إستوقفته قصة، رواية، مسرحية، أو نص جميل.
لا أخال نفسي وأنا أحادثه ويحادثني، إلّا أنني أمام صديق قديم، أمام صديق عريق، أَلِفَ معنى الصداقة وألفته، حتى صار الصداقة والصديق. تراه يصدر دائما عن حب، عن عشق، عن معنى يعذّبه. ينشغل به حتى الوصول إلى الينابيع. يطلع من العناوين الكبيرة، ويدخل في العناوين الصغيرة. يغرق في التفاصيل، ثم يخرج بلقى البحر، كصياد، مارس الغوص ومارسه الغوص، حتى النفس الأخير.
كلما إلتقاك يشهق لك، كأنما وقع على ما لا يتوقع. تكون المفاجأة على الوجه واليدين وفي العيون وداخل القلب الكبير. لا يبيح بكل حبه، لا يبيح بكل عشقه. يدخّر الكثير الكثير للمقال الأخير. فكلما صادف منك صفحة الوجه، يخفي ما في قلبه، من الحب. لعلّه يحفظ لليوم التالي حصته، فأيامه كلها مدخرات للقاءات الجميلة، للقاءات الكريمة، ولا يعرف ما يغصّ به القلب، من عظيم الحب، ومن عظيم الجميل، ومن دهشة التقدير.
لا أحسبك ستفاجأ معي، إن أذعت سرا، عن نوع من الصداقة التي لا طاقة للآخرين عليها، يعرفون الصداقة أنها فن اللقاء مع الآخر، ويعرف الصداقة، أنها فن اللقاء مع الثمار. فكل فن هو نوع الثمرات اللذيذة، حين تكون العشرة على مستوى رفيع من جميع الفنون.
يأتي من حيث لا يحتسب له آتي، يخرج من الأعمال الفنية كلها، وكأنه بين عشيرة غاوية: صديقا لكل فن من الفنون، يحسب أنها تخفي عليه بعض وجوهها، فيطلق ورشة بحث عن هارب، عن فن، عن كتاب، عن صديق. يمضي وقته كله، في رحلة البحث والتقصّي عن صداقات غادرته وغدرته. يحاذر كثيرا حين يقتفي آثارها في العيون.
يكتفي بما تشف، بما تصف. يقول في نفسه: آه ما أجمل الرحلة في طلب التنقيب عن الفنون.
كلما إلتقتك يداه، حملتك إلى جاه الأدب، وجاه الشعر ووجاهة المسرح، وفن الإضاءة على الخفاء، يخرج من يديه كما فانوس علاء الدين، يبهر الآخرين، يحمل العالم صغيرا بين عينيه، حلما ناضجا، وأحلاما في طريقها إلى النضوج. وهل الصداقة إلّا كذلك: فن إغراء المعجزات، في أزمنة الجفاف واليباس والقحط والأفول.
يذهب إلى فن الصداقة وفن إلتقاء/ إندحام الصديق، بكل عدّته، بكل قوته. لا يدخّر شيئا، وكأنه لا يريد لنفسه أن تعود عن رحلة، عن جبل يعرق/ يعرقه، تعب السنين في متابعة صديق.
كان حيثما إلتقاه، أقام لذلك اللقاء مهرجانا يسع دنياه كلها: غريق أفكاره كلها عن الحب والعشب والشعب والبر والتبر والدر. يغوص في الأعماق حتى يأتي بها ناضجة، زاهية، مؤنسة، كما صديق المفكرين. لا أحسبني أضيّعه، مهما ضاقت نواحيه بي، لأن مثله لا يضيع، يظل على هدايته كما بوصلة قطب الشمال، تحدّد جميع الجهات من حولها، وتأبى عليه أن تضيع.
هل تراني رسمت بفني فنا جديدا عنوانه صديق المفكرين؟!
نعم الإجابة، إن صاغت لي ذهب ذلك الوجه الذي يرتاح للمدى ويصادقه، يحمل سمات زاهد ما عرفت مسماه بعد، لهذا النوع الجديد من الزهد. غير أني رأيت شبيها له في سمات رجل صادق وصديق، كما يوسف رقة: رقة حواشي الأدب أم رقّة الفكر الرصين.
أستاذ في الجامعة اللبنانية