اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٣٠ أيار ٢٠٢٥
خاص الهديل…
قهرمان مصطفى
حين لا تكون للرصاصة الكلمة الفصل، ولا للقوة وحدها القدرة على رسم الخرائط، تعود واشنطن لتجربة أدواتها القديمة – الجديدة: الدبلوماسية الناعمة؛ ليس من باب المثالية، بل من باب الضرورة؛ فالانهاك الأميركي في الشرق الأوسط، وتبدّل موازين القوى، أعادا ترتيب أولويات الإدارة الأميركية، وفرضا مقاربة جديدة في التعاطي مع أكثر الملفات استعصاءً: الملف السوري.
المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، لم يتحدث من فراغ في منشوره الأخير، بل أطلق رسائل محسوبة، تستند إلى قراءة عميقة لتحوّلات المشهد السوري والدولي؛ فبين تراجع الهيمنة الغربية، وصعود الأدوار الإقليمية، واهتزاز أدوات التدخل التقليدية، باتت الشراكة لا السيطرة، هي السبيل الأمثل لحفظ المصالح.
ما قاله باراك لم يكن كذباً، لكنه لم يكن بريئاً أيضاً. بل عكس نضوجاً في فهم المشهد السوري، وفي إدراك حجم التغيرات في النظام الدولي؛ فبينما واشنطن لم تعد قادرة على فرض رؤيتها منفردة، تبدو العودة إلى أدوات 'القوة الناعمة' خياراً أكثر حكمة، وأقل كلفة، أي لم تعد الهيمنة هدفاً واقعياً، بل باتت الشراكة خيار الضرورة.
باراك أقر، بعبارات ذكية ومدروسة، بأن الزمن تغيّر. لمّح إلى أن التدخلات الغربية لم تعد مجدية، وأن العالم يسير نحو تعددية قطبية صاعدة، حيث تزداد أدوار اللاعبين الإقليميين، وتتراجع القدرة على الحسم العسكري أو السياسي من طرف واحد. ولعل التجربة السورية كانت المثال الأوضح على ذلك.
منذ أكثر من عقد، تحولت سوريا إلى ساحة تصادم بين قوى متعددة، دولية وإقليمية، عسكرية واقتصادية، أمنية وثقافية. وخلال سنوات الحرب، تغيّر المشهد مرات عدة. قوى تراجعت، وأخرى تقدّمت. تحالفات تبدلت، وأجندات تضاربت. ومع ذلك، لم ينجح أي طرف في تحقيق نصر كامل أو حسم نهائي.
هذا التوازن السلبي، أو الفوضى المنظمة، كشفت محدودية 'القوة الصلبة'؛ وهنا تحديداً، بدأ الحديث الغربي عن ضرورة اللجوء إلى أدوات أكثر ليونة: الاستثمارات، الدبلوماسية، بناء الشراكات، ومحاولة ترميم صورة الغرب في الوعي الجمعي العربي – السوري تحديداً.
في منشوره الأخير، حرص باراك على إرسال إشارات متعددة الاتجاهات. أكد أن واشنطن لا تريد تقسيم سوريا، وشدّد على أهمية وحدة الأراضي السورية، وذلك بعد لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في تركيا؛ الرسالة واضحة: أميركا اليوم لا تسعى لتفكيك سوريا، بل تبحث عن تسوية تحفظ مصالحها ومصالح حلفائها، من دون خوض مغامرات عسكرية جديدة.
ولعل أبرز ما كشفته تصريحات باراك، وقبلها مداخلات شخصيات أميركية أخرى كوزير الخارجية ماركو روبيو، هو أن واشنطن تدرك تماماً خطورة انفراط الكيان السوري. وتدرك أن الاستقرار في سوريا لم يعد مصلحة سورية فقط، بل مصلحة إقليمية ودولية أيضاً. أوروبا تخشى موجات جديدة من اللاجئين، وتركيا تبحث عن عمق آمن، والخليج يسعى لاستقرار يضمن تدفق الاستثمار والطاقة.
وسط هذه التعقيدات، تلوح أمام السوريين لحظة فريدة. فللمرة الأولى منذ عقود، تتقاطع مصالح معظم الأطراف: السوريون يريدون الخلاص من الحرب والدمار، والإقليم يريد الأمن، والغرب يريد شريكاً لا عبئاً. إنها لحظة سياسية نادرة، يجب اقتناصها قبل أن تضيع كما ضاعت فرص كثيرة في السنوات الماضية.
وفي خضم هذا كله، لم تعد سوريا مجرّد ملف في أدراج العواصم الكبرى. باتت عقدة اختبار لنموذج عالمي جديد: هل تستطيع القوى الكبرى والصاعدة معاً، أن تتقن لعبة الشراكة بدل الهيمنة؟ وهل يمكن لقوة ناعمة ذكية أن تعيد بناء بلد مزّقته الحروب، وأن تحوّل الصراع إلى فرصة تنمية؟
الأكيد أن الإجابة ليست في واشنطن وحدها، بل في دمشق، وأنقرة، والرياض، وفي عقول السوريين أنفسهم. أمامهم لحظة مفصلية: إما أن يتحوّلوا إلى صانعي تسوية تاريخية، أو أن يبقوا رهائن على هامش لعبة أمم لا ترحم.