اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
يأخذنا عمر العقّاد، في روايته «حرب أمريكية» وترجمة مجدي عبد المجيد خاطر إلى أميركا متصدّعة، مزّقتها حرب أهلية ثانية في نهاية القرن الحادي والعشرين. الرواية ليست مجرد تأريخ لمستقبل مفترض، بل هي نقد مرير للتاريخ المعاصر، حيث تتكرر أنماط الانقسام، والتعصب، والانفجار الأخلاقي. فالراوي، يبدأ بالكشف عن ذاته، هو واحد من أولئك «الناجين»، ممن كُتب لهم أن يعيشوا لا لينسوا، بل ليحملوا شيفرة الخراب في عروقهم. إنه ليس مجرد فرد يسرد، بل شاهد ووريث لذاكرة وطنية مدمرة. «أنتمي لما يطلقون عليه الجيل الأعجوبة، هؤلاء الذين ولدوا في الأعوام بين بداية الحرب الأهلية الأميركية الثانية عام 2074، ونهايتها عام 2093». إذ يتحول الزمن من مسار خطي إلى جراح متراصة، كل منها يعيد فتح الآخر. لا فواصل بين الماضي والمستقبل، لأن كليهما يسكن في جسد واحد الجيل الذي نجا، لكنه لم يُشفَ قط. وبذلك يُدخلنا في عالم متخيّل لكنه مقلق في واقعيته، ويعرض لنا وجها إنسانيا لآلة الحرب جوليا تمبلستون، وراوٍ مجهول الاسم من «الجيل الأعجوبة». جوليا تمبلستون شهيدة الجنوب «لقد جاؤوها المتمردون بينما الضمادات ما تزال دافئة حول معصميها... كانت ثملة ووحيدة مرّةً أخرى برفقة مرض دماغها المروّع».
هكذا يُدخلنا العقاد في عوالم جوليا، شخصية مأزومة، محطمة نفسياً، وقودٌ مثالي لآلة التمرد. السرد لا يكتفي بوصف جوليا كضحية، بل يُعرّي آليات اختيار «الشهداء» ضمن التنظيمات المتمردة، حيث يتم تجنيد الهشاشة، والانتحار المؤجل، والتطرف الهامشي وتحويله إلى أداة فاعلة. اختيار جوليا، بلباسها «الغريب البالي»، وبحملها المزيف المحشو بالمتفجرات، ليس اختياراً أيديولوجياً خالصاً، بل توظيف ساخر للضعف الإنساني. جوليا لا تُمثّل فقط امرأة في قاع اليأس، بل هي استعارة حيّة عن كيف تستغل الحروب الهشاشة النفسية لتصنيع البطولة. يُحيلنا ذلك إلى النقد الذي يوجهه العقاد لأنظمة الدعاية الثورية التي تخلط بين «الاستشهاد» و«الاستغلال..» «سوف يتذكرونك إلى الأبد. قالوا لها. وحين تنتهي الحرب سيشيدون مُدُنا يُطلقون عليها اسمك». هكذا تتجلى السخرية الرمادية المدن التي ستُبنى باسم جوليا، تُبنى على أشلاء إنسانيتها. «من هؤلاء، شكلوا أسلحة». «لقد جاؤوها المتمردون بينما الضمادات ما تزال دافئة حول معصميها». فشخصية جوليا تمبلستون ليست محض شهيدة، بل نتيجة هندسة نفسية متقنة العنف. فتاة حطّمها الاكتئاب، وفككتها الوحدة، أُعيد جمعها، لا في سبيل الشفاء، بل لتتحوّل إلى قنبلة. فالعقاد يجعلنا نرى كيف يمكن لمجتمع ممزق أن يعيد تدوير الضعف الإنساني في هيئة بطولات تراجيدية. وجوليا التي كانت مريضة نفسياً، محطّمة عاطفياً، تصبح رمزاً مقدّساً لا بفعل فعل بطولي بل بفعل من صمّم آلتها الناسفة. الجسد الأنثوي هنا مسرح مزدوج للرحم الزائف وللدمار الأكيد. في إحدى أبشع صور الاستغلال الأيديولوجي، تُحمَّل جوليا عبء البطولة كمن تحمل حملاً كاذباً.ثم ينتقل السرد من جوليا إلى راوٍ ينتمي إلى ما يُسمى «الجيل الأعجوبة»، فيقف على حافة السيرة الذاتية، ويدخل في تأملات بصرية ونوستالجية: «كنتُ أجمع البطاقات البريدية وأحتفظ بها داخل صندوق أحذية أسفل فراشي في ملجأ للأيتام». إذ تبرز الذاكرة المادية (البطاقات) كأداة لمقاومة الطمس والخراب. في عالم اجتثت فيه جذور الهوية، يصبح أرشيف الصور فعلاً من أفعال النجاة النفسية، وتعبيراً عن حنين إلى ما قبل التمزق. البطاقات ليست مجرد (صور)؛ إنها شظايا من وطن مفقود، تمثيل مصغر لماضٍ مستحيل العودة إليه. الراوي، الذي يرى نفسه «صبياً من جورجيا لسعته الشمس، محض لاجئ»، لا يملك أي وسيلة للبوح غير التوثيق «أفكر أحيانًا في التخلص من البرميل... لكن قلقا كان يساورني من أن يراه أحد، زميل لي في الجامعة مثلا، فيظنه بياناً سياسياً». في هذه الجملة تكمن ذروة القلق المعاصر حتى الحنين قد يُقرأ كفعل سياسي، حتى الذكرى قد تُفسر كتمرّد.
يعتمد العقاد في روايته على تحولات ناعمة في النبرة، يبدأ من السرد الحميمي (جوليا في سرير المستشفى) إلى السرد الوثائقي شبه التاريخي (خطط الاغتيال، نقلها إلى البيت الريفي)، ثم إلى تأملات فلسفية (البطاقات، الطفولة، الجيل الأعجوبة). هذه البنية المتدرّجة تمنح الرواية غنى طبقياً؛ حيث تختلط المأساة الفردية بالمصير الجمعي. فاللغة تقف بين الشعرية المبطنة والواقعية القاتمة، في جمل مثل «كنتُ أحس، لأول مرة في حياتي، بالبرد، ولما رأيت بالقرب من قمم الجبال قرص الشمس الأصفر يتدلى من السماء، فكرت أنني بلغت آخر تخوم العالم الحي». إنها ليست فقط سرداً لذكرى، بل تكوين مشهدي لعالم ينقرض.
لا يخفي العقاد إسقاطاته السياسية والاجتماعية. الجنوب، التمرد، اللاجئون، المقاتلون الانتحاريون، كلها تحيل إلى واقعنا المعاصر، لا إلى مستقبل متخيّل فقط. الرواية تعيد تخيّل الصراعات العالمية داخل أميركا نفسها، وتكشف كيف أن الهمجية ليست حكراً على «الآخر» الغريب، بل كامنة في قلب الحداثة.
رواية «حرب أمريكية» ليست تنبؤية فقط، بل مرآة قاتمة لزمننا. عبر شخصية مثل جوليا، يُظهر العقاد كيف تتحوّل الأجساد إلى أدوات في صراعات أكبر منها، وكيف يصبح التوثيق الشخصي (البطاقات، الصور، الذكريات) مقاومة لهوية يُراد محوها. ثم أمام سؤال أخلاقي وفلسفي هل نحن نكتب التاريخ أم نُستهلك فيه؟











































































