اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ٢٥ شباط ٢٠٢٥
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان 'جنوبية' بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.
يتبادل اللبنانيون خطابات الكراهية، ويتقاذفونها في كل مناسبة، من شاشات التلفزة التي لم تعد منابر حوار وتثاقف وعرض مواقف وافكار، بل متاريس وساحات خصام وسجال، الى وسائل التواصل الاجتماعي وفضاءاته، تتسابق الاقلام والعقول على تدبيج المقالات والتغريدات والمنشورات والفيديوهات، لتشويه صورة الآخر والإساءة الى طبيعته، وإخراجه من إنسانيته وتصويره شيطانا شريرا، تكتمل فيه كل مفاسد الدنيا واخطارها …
منابر متقابلة فتحت معركة لا تنتهي، حول الأعداد المشاركة في التشييع؛ الأرقام المتداولة تنقلت من ١٦٠ الف الى مليون و٤٠٠ الف، والرقم الاخير يفوق اعداد المواطنين الشيعة المدرجة اسماءهم على لوائح الشطب الانتخابية!!
من جهة اُخرى يتبدى خِطابُ تعظيمِ الذاتِ المكابرة، بشعورِ القداسةِ والعنفوان، فيُصَوِرُ 'حزبُ الله' نفسه مخلوقا خارقا، يشبه كائنا فضائيا كابطال افلام الكرتون وشخصياتها ك 'غرانديزر'.
ينطلق احدهم ليهتف؛ 'لا يشبهوننا ولا نستطيع العيش معهم'، يلاقيه من الجهة المقابلة آخر ليقول 'حزب الله' ولد والنصر مكتوب على جبينه'. ويقف زعيم آخر ومن خلفه ٦٠ قرية لبنانية مدمرة، ومقتلة طالت ١٠ الاف من رفاقه وزعيمي حزبه ليقول؛ انتصرنا غصبا عنكم! انتصرنا. وموتوا بغيظكم المقاومة باقية! دون ان يشرح مقاومة ضد من! واين ومتى وكيف سيتابع مقاومته؟! بعد ان انسحب شمالي الليطاني، ودون ان يخبرنا لماذا وصلنا الى الكارثة الراهنة؟!
يتبدى خِطابُ تعظيمِ الذاتِ المكابرة، بشعورِ القداسةِ والعنفوان، فيُصَوِرُ 'حزبُ الله' نفسه مخلوقا خارقا، يشبه كائنا فضائيا كابطال افلام الكرتون وشخصياتها ك 'غرانديزر'
فيما تهتف سيدة محجبة، اغضبها منع طائرة ايرانية من الهبوط في مطار رفيق الحريري في بيروت؛ جوزاف عون صهيوني، ونواف سلام صهيوني.
يستنكر اخرون تشييع 'حزب الله' لزعيميه، ويعتبرونه معركة ضدهم وخطرا يطالهم، احدهم كتب انها مؤامرة يستقدم فيها الحزب أنصاره من اليمن والعراق وايران ليستولي على لبنان!!
إقرأ أيضا: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: أيُقتَلُ من يُصبِحُ أكبرَ من بلده؟
بعد انقضاء التشييع، هل عاد هذا الجهبذ لمراجعة نفسه وما كتب، طبعا لا بل ذهب الى ممارسة كراهية اخرى.
منابر متقابلة فتحت معركة لا تنتهي، حول الأعداد المشاركة في التشييع؛ الأرقام المتداولة تنقلت من ١٦٠ الف الى مليون و٤٠٠ الف، والرقم الاخير يفوق اعداد المواطنين الشيعة المدرجة اسماءهم على لوائح الشطب الانتخابية!! كما تشكل هذه الاعداد ضعفين ونصف ضعف، ما نالته 'ثنائية' امل_ حزب الله، من اصوات تفضيلية في الانتخابات النيابية سنة ٢٠٢٢، ويظهر ان الأصرار على هذه الارقام الوهمية، هو رسالة من 'حزب الله'، تقول رغم المقتلة الانسانية والهزيمة العسكرية، واتفاق الاذعان الذي أوقف اطلاق النار، والذي قبلنا به، فان ابناء الطائفة الشيعية مازالوا على ولائهم لنا! وهو امر لا يصح اختباره وتقييمه، في لحظة وداع عاطفية وجدانية كتشييع السيد نصرالله.
بين اظهار تفوق موهوم، عددا سلاحا او قوة، ام تمدنا او حضارة، بين مظلومية مزعومة وحملات شيطنة الاخر، تستمر حملات الكراهية المتبادلة، تعبث في الحياة السياسية اللبنانية، وتحولها الى مستشفى مجانين، يصم الآذان صراخ نزلائها، كما تنتعش مقولة الصفاء الطائفي، والفرح بتعظيم قوة 'حزب الله' وتكبير حشده، كذرائع للدعوة الفدرالية، وطبعا العداء والكراهية للشيعة الاحرار، والتقليل من شانهم واعتبار تأثيرهم معدوما، كذرائع رديفة للدعوة الفدرالية، الفدراليون ليسوا اعداءً ل'حزب الله'، بل شديدي الإعجاب به، وعمليا هم المتناظرون معه ( مُناهُم ان يكونوا صورة في مرآة عنه) العداء لاتفاق الطائف ومحاربة اية حكومة اصلاحية، تسعى لاستعادة الانتظام الوطني للمؤسسات الدستورية، من عدة شغل الدعوة الفدرالية، ما تعلنه ليس مستجدا او استنتاجا فوريا، بل في صلب الدعوة الفيدرالية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
بين اظهار تفوق موهوم، عددا سلاحا او قوة، ام تمدنا او حضارة، بين مظلومية مزعومة وحملات شيطنة الاخر، تستمر حملات الكراهية المتبادلة، تعبث في الحياة السياسية اللبنانية، وتحولها الى مستشفى مجانين
في كل الأمثلة عن دول فدرالية، لا توجد اي فدرالية منظمة على اساس طائفي ديني، كما يطرحها الفدراليون في لبنان، وكل الفدراليات في العالم، قامت لتوحد اجزاء مقسومة، ولم تقم لتجزئة وطن موحد وتفكيكه.
إقرأ أيضا: علي الأمين: وداع نصرالله طوى «وحدة الساحات» ووضع الحزب «خلف الدولة»
هؤلاء الفدراليون يريدون العيش في صفاء طائفي، بمعزل عن ماهية وطبيعة الشريك، وسواء كان هذا الشريك مدنيا متمدنا، وديموقراطيا، يحرج الفدراليون في سعيهم للانفصال عنه، او اصوليا متدينا، سواء كان الشريك وجهة نظر سياسية مسالمة، ام حزبا مدججا بالسلاح وينفذ سياسة ايران ك'حزب الله'، هؤلاء هم ضد العيش المشترك، وضد التعددية السياسية على مستوى الافراد والافكار في اي مجتمع، التعددية بحسبهم، هي تعددية الهوية بين الجماعات فقط، اي تعددية الكتل الصماء الطائفية، ولا تتعداها الى التعددية الشاملة، التي تتيح حرية الافراد والافكار، و تسمح بالتنوع داخل الجماعة، وتلاقي المبادرات العابرة بين جماعة وأخرى، هؤلاء لا تعجبهم ديموقراطية الدول الاوروبية، ولا نمط العيش في دول علمانية، ما يريدونه دولة مسيحية شرقية وليست غربية، لان المسيحية الغربية منفتحة، ومسيحيتهم في غالبيتهم، متشددة ومغلقة، هذا التشرنق مصيره الاختناق ككل شرانق الحرير.
يستعينون بالتاريخ للعودة الى لبنان صغير ومسيحي، عبر تلفيق الكلمات والعبارات، فثمة فارق بين لبنان التوراة كمنطقة جغرافية، ولبنان الجبل والقائم مقاميتين، ولبنان المتصرفية، ولبنان الوطن والدولة…
لبنان الوطن والدولة لم يكن موجودا قبل ١٩٢٥، مع اعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير، الامارات المعنية والشهابية والمتصرفية التي تولاها حاكم مسيحي، تعينه السلطنة العثمانية والقائم مقاميتان والولايات المحكومة من مقاطعجية آل حرفوش، وآل سيفا، وعلي الصغير، وناصيف نصار اسلاف آل الاسعد وغيرها، جميعها كانت ضمن السلطنة العثمانية، التي كانت تعتمد تنظيما اداريا، يقوم على الحكم الذاتي واللامركزية، تحت سلطة الباب العالي، ولذلك نقول لهم ان سبب وجود لبنان هو اعلان دولته سنة ١٩٢٦، وقيام هذه الدولة على مدى مائة عام، ورضا شعبه وتفاعله سوية.
في الحقيقة ان الإشكالية اللبنانية تتمثل في تساكن عوامل الوحدة والتفكك ، لكن ذلك لا يطرح الا معضلة سياسية، تتمثل باجتراح ادارة مناسبة لهذه المساكنة
يشكك كثيرون في متانة الوحدة الوطنية اللبنانية، ويسلطون الضوء على تعدد النزاعات بين الاطراف السياسية، ويبرزون الميول المتنابذة للجماعات الطائفية اللبنانية المختلفة، وفي الحقيقة ان الإشكالية اللبنانية تتمثل في تساكن عوامل الوحدة والتفكك ، لكن ذلك لا يطرح الا معضلة سياسية، تتمثل باجتراح ادارة مناسبة لهذه المساكنة، ليس على اللبنانيين، جماعات وافرادا، ان يتماثلوا وان يتطابقوا في خياراتهم وافكارهم وسلوكياتهم، بل كل ما هو مطلوب من نظامهم السياسي، ان ينظم ويبيح تنوعهم.
التعددية في لبنان ليست فريدة في عالم الربع الاول من الالفية الثالثة، فمن اصل ١٩٤ دولة في العالم، نستطيع براحة تامة ان نحصي اكثر من ١٧٥ دولة في العالم مجتمعاتها متعددة، على مستويات مختلفة، اثنية وعرقية، ثقافية ولغوية، ودينية وطائفية، ومع ذلك فان الخيارات لادارة هذا التعدد يتخذ اشكالا سياسية متنوعة ومختلفة.
ليس على اللبنانيين، جماعات وافرادا، ان يتماثلوا وان يتطابقوا في خياراتهم وافكارهم وسلوكياتهم، بل كل ما هو مطلوب من نظامهم السياسي، ان ينظم ويبيح تنوعهم
شكل اتفاق الطائف محاولة جدية لاعادة توزيع السلطة بين المؤسسات والذهاب الى ديموقراطية برلمانية، تنبثق عنها حكومة كسلطة تنفيذية تسمح بمشاركة واسعة لاوسع طيف سياسي، ورسم الطائف انتقالا متدرجا، يتيح ضمانات للطوائف، ويرعى حقوق الافراد، ويشرع الافق لقيام دولة مدنية حديثة.
الهوية الفردية او الدينية او الوطنية، ليست معطيات منجزة تامة ابدية الوجود وببعد واحد، بل هي متفاعلة متعددة الابعاد وتتخذ صفات عديدة
السياسة بمعناها النبيل، هي ادارة للشأن العام ولمصالح المواطنين، وتنمية لموارد البلاد وتطويرها، ولذلك فهي ميدان للصراع حول الخيارات والخطط والبرامج والمصالح، ولا تنحصر ابعادها بصراع بين الهويات المتنابذة، صراع الهويات دائم يدمر ويستمر، اما صراع الخيارات والمصالح فيختبر يصح فيعتمد، ويخفق فيستبدل…
إقرأ أيضا: المحاسبة بين سيادة الشعب وخنوع «القطيع» هزائمنا.. وهزائمهم! (1/2)
الهوية الفردية او الدينية او الوطنية، ليست معطيات منجزة تامة ابدية الوجود وببعد واحد، بل هي متفاعلة متعددة الابعاد وتتخذ صفات عديدة ؛ دينية، مناطقية، تربوية، ثقافية، ولغوية، فكرية، ومهنية، و تتاثر بتجرية حياة الفرد والجماعة، في العمل والسكن والاستهلاك، وهي دائما في طور التشكل والتبلور.
السياسة بمعناها النبيل، هي ادارة للشأن العام ولمصالح المواطنين، وتنمية لموارد البلاد وتطويرها
نظرة الفدراليين للهوية، هوية الفرد وهوية الجماعة، كمعطى ثابت مربوط بديانته فقط. يجافي وينكر حقائق الاجتماع الانساني و المبادئ الاولية للعلوم السياسية.
خلف صورة 'العصفورية السياسية'، التي يظهرها اعلام التلفزة ووسائل التواصل الإجتماعي، ثمة شعب لبناني يعمل ويعيش معا، بكل تنوعه وجماعاته وقناعاته وقطاعاته ومهنه واسواقه واحلام اجياله، ولبنان وطن يتجدد ويتشكل يوما بعد يوم.