اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ١ أيار ٢٠٢٥
كتب الدكتور حسان فلحه المدير العام لوزارة الإعلام في صحيفة 'النهار':
تتحكم الولايات المتحدة الأميركية بطلاقة في عالم إدارة المعرفة، من خلال شركاتها الخاصة ومؤسساتها العامة أو عبر تلازم القطاعين المتنمرين معا بزهو، وتعيد إنتاج ثقافات الأمم وكتابتها بصيغ مجهولة النسب، واضحة المصدر (لها)، بعد تملكها القدرة على السيطرة والتحكم في مجالات تكنولوجيا المعرفة وقيادتها .
هذه المنصات المعرفية ومحركاتها البحثية تتمكن من استلاب الأفكار والثقافات والمعارف، والاستيلاء عليها بكمها اللامحدود، وإعادة صياغتها في إطار من الضوابط والمعايير المحددة، في تفوق تقني مذهل لا يماثَل أو يجارى.
إنها الصناعة الرائجة للثقافات الاصطناعية واقتصادات المعرفة، على قاعدة عندما يتحدث العقل الأميركي فإنه يتحدث عن العالم أجمع .
عند إطلاق عالم الكومبيوتر الأميركي جون مكارثي عبارة 'الذكاء الاصطناعي' لم يحسب أن التقنيات المعرفية ووسائلها ستفرط في تعميق تجهيل بنوة الثقافة وتبيانها وتتعثر مدارك احتساب اشتقاقها وانتسابها .
ما عرف بالذكاء الاصطناعي، هو بالأحرى التفوق الإدراكي والمعرفي المرحلي والاتكالي في سياق تراكم بنيان الثقافة من خلال وسائل الخوارزميات، كي تستحيل ضوابط لتحديد انتمائها (الثقافة)، أطرا شديدة التعقيد عند حصر الملكية الفكرية أو الأدبية أو العلمية أو عند ترسيم معالمها. هي تجانس الأضداد، غريبة النسب، كثيرة النِحَل. وهوية مكتومة القيد أقل ما توصف بأنها تغدو مشاعاتٍ ناتجةً من الارتطام المعرفي بين الحجم المذهل لوفرة المعلومات ذات الدفق الهائل، والسنوات القليلة لاحتساب أعمار الفرد المعرفية، قصيرة المدى أساسا. الإنسان آنذاك يستجير بالآلة على تردده الذهني وتمرده، وانعتاقه من روحية التفكير إلى الانبهار المادي .
لم تعد المعرفة المستولدة من محاكاة الوسيلة في الردود والأجوبة تستثمر في علم إثبات النسب واستقائه، ولا تكترث بحق تدوين الملكية الفكرية وتناقلها، وهما شأنان سقطا في فضاءات الذكاء الاصطناعي الذي يتغول في استيلاب حقوق الأنساب أو ردها إلى أصحابها، بل يحيلها لقيطةً ثقافيةً على قاعدة المشاعة المعرفية، لا احتساب مصدرها ولا ربط مرجعها .
تشترك 'الثقافة الاصطناعية' بمفهومها الواسع مع عمليات 'الذكاء الاصطناعي' في تلازم مدارات السرعة ومساراتها. الأولى ميزتها الضن بالارتقاء في استدراك ذكر النسب والحرص عليه عند تكوين حالات التراكم المعرفي السريع الذي تتصف به عادة الثقافة عموما .
والثقافة باللغة العربية قد تعني 'الحذق، والفطنة، والذَّكاء، وسرعة التَّعلم، وتسوية الشَّيء، وتقويم اعوجاجه، والتَّأديب، والتَّهذيب، والعلم، والمعارف، والتَّعليم، والفنون'، أو كما احتسبتها اللغتان الإنكليزية والفرنسية، 'الفنون والافكار والسلوكيات الاجتماعية الروحية والمادية كمظاهر إنجاز الفكر البشري داخل المجتمعات'.
وأيا كان تعريف الثقافة، لغة ومفهوما، فإن التطور التقني المستعر على ظلال الذكاء الاصطناعي أعتقها من أطرها التقليدية وغدت ثقافة تسير على منوال الانحدار النوعي وتسيّد التمدد الكمي. قد يكون في هذا القول بعض من الضبط المتلبس للحالات السائدة، لكنه يقينا تغيير بنيوي في أركان التفكير وأنماطه، وتبديل في ترتيب عناصر إعمال العقل .
والذكاء الاصطناعي يطغى عليه إعادة إنتاج الافكار وترويجها، على غير ما دأب عليه أصحابها الأوّلون في التأني، وذلك بسرعة فائقة وسائغة إن لم يكن غالبا سلبُها، واستملاكها بعيدا من صعوبة تباين المصدر، وهو إسقاط مع سبق الإصرار لما درج عليه الباحثون والدارسون في استمراء تبنيهم لما يعرف بمنهجية البحث العلمي، وإحقاق الحق لأصحابه. وإن كانوا في فلتات طموحهم التنويري والتقدمي قد اباحوا استخدامه كحق إنساني يستوجب تعميمه ونشره في سياق النمو الفكري والثقافي الإنساني، أو حق عام لا يختصه أحدٌ في الاحتكار والتملك .
الذكاء الاصطناعي وسّع أزمة الريبة بالنص وتعاظم محنة العقل في الحيرة وفي تقديم النقل عليه، والاقتباس والنسخ. وكذلك فعل بالصورة والمشهد المصور. ولا أدري ما كان موقف 'معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا' عندما طرد مكارثي مرة، لعبثه بعدم حضور محاضرات الفيزياء، والمعهد يرزح باستمراره اليوم تحت ثقل الذكاء الاصطناعي. إنه العالم المتغير المتردد الذي ينزع قيمه وأخلاقياته أمام عرى التكنولوجيا المتسارعة ليبني أخلاقيات وقيما لا تعير المترددين انتباها ولو للحظة تقنية عابرة .
لم يكن الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير متشائما عندما زعم أن 'لا وجود للحقيقة وليس هناك سوى الإدراك'. لكنه كان واقعيا عندما قال إن 'فن الكتابة هو فن اكتشاف ما تؤمن به'، وليس بالضرورة من كتب أو تبيان النسب .
الذكاء الاصطناعي يقدم النقل على العقل والاقتباس على النسب .