اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٤ شباط ٢٠٢٥
في الكثير الذي كتب وسوف يكتب عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الذكرى العشرين لاستشهاده، تتنوّع الآراء والاجتهادات حول الأسباب التي أدّت الى هذا الاستشهاد. ولئن كانت حياة هذا الرجل، ذي القامة التاريخية، غنيّة بالأسرار كونها غنيّة بالقيَم الإنسانية والأخلاقية، فإن قدرية التاريخ تفرض على الباحثين التدقيق في خلفية اغتياله على ضوء الوضعية الجيو - سياسية للبنان آنذاك والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي كان يعاني منها وطن الأرز مطلع القرن الحادي والعشرين، ونحن الذين كانت لدينا صداقة فكريّة وشخصيّة مع الرئيس الحريري منذ الوقت الذي اختارني فيه البطريرك صفير ورئيس الرهبانية اللبنانية المارونية، رئيس جامعة الكسليك لأقدِّم الرئيس الحريري فيأثناء زيارته الأولى إلى المنطقة الشرقية في مدرسة الرهبان في جونيه.
أولاً، في كل مرة كنت ألتقيه بعد التقديم، كان يذكّرني بما قلته عنه 'من أنه رجل مال واقتصاد ولكنه رجل لديه مشروع سياسي للبنان ولكنهم لا يسمحون له بتحقيقه'، فالقوى المهيمنة على لبنان كانت تريد من الرئيس الحريري أن يعمل في المال والاقتصاد حيث تجد مربحاً لها. ولكنها لا تريده أن يعمل في السياسة، ولكن الحريري حقّق انجازاً تاريخياً ربما يكون الإنجاز الأبرز والأكثر أهمية على الإطلاق بالنسبة لجميع اللبنانيين وهو أنه في موقفه الوطني، تخطّى مفهوم لبنان كمعطى للعقل إلى مفهوم لبنان كمعطى للقلب والضمير ايضاً. وفي هذا جدتهُ وعظمة دوره التاريخي وأهم إنجاز حقّقه للبنان واللبنانيين.
ثانياً، منذ زمن رياض الصلح كان أهل السنّة يرون في لبنان معطى للعقل أي لتأمين مصالحهم وعندهم أن شرعية قيام لبنان، مبنيّة على مبررات عقلية وإن كانوا في العمق لا يتعاطفون معها لكونها خارج الإيديولوجية السنيّة في الشرع والوحدة والحكم. لكن مع رفيق الحريري، انتقلت شرعية الكيانية اللبنانية لدى أهل السنّة من أن تكون معطى للعقل فقط، على أن تكون معطى للقلب والضمير ايضاً أي أن تصبح التجربة الكيانية اللبنانية أمراً محبوباً ومرحباً به. لقد أصبح لبنان لدى أهل السنّة، مع رفيق الحريري، لبنان الحبيب لا لبنان الغريب، لبنان أولاً ولبنان النهائي... وعنده 'أن لبنان الذي هو وطن وفكرة وفلسفة وعاطفة ومحبة شعوب الأرض جميعاً'.
ويشدّد الحريري على أن لبنان 'هو مركز للثقافة والعلم والديمقراطية وحرية الكلمة وحق الإنسان وسيادة القانون... إنه لبنان المتمسك بقوة الحرية والديمقراطية والسلام فوق كل اعتبار...'.
ثالثاً، إن هذا الانتقال من مشاعر اللبنايين، لا سيما أهل السنّة نحو لبنان الكيان والدولة، هو التحوّل العاطفي الوطني الأبرز في حياتنا الوطنية عبر التاريخ وهو ما قدّمه رفيق الحريري حين استطاع أن يجمع بين فكرة اللبنانية وفكرة العروبة. بما يخلق شعوراً جديداً هو شعور العروبة الجديدة، العروبة الحضارية، عروبة الحرية والليبرالية فوق أرض لبنان أرض ميعاد الحرية والأحرار!
لقد حشد رفيق الحريري كل عقله وعاطفته ونفوذه الداخلي والإقليمي والدولي لصياغة القرار 1559 والموافقة عليه في مجلس الأمن واستخدم نفوذه الدولي لدى الرئيسين الأميركي جورج بوش الابن والفرنسي جاك شيراك للموافقة على هذا القرار الذي هو قرار تأسيسي بالنسبة للبنان. لأنه يؤكد باسم الأسرة الدولية أن لبنان بحدوده التاريخية هو حقيقة جغرافية وتاريخية. من هنا ضرورة الدفاع عن سيادته واستقلاله ومنع أي دويلة من القيام في داخله. ومن الواضح أن هذا القرار هو تحدّ للقوى الإقليمية المحيطة بلبنان وللقوى المسلحة غير الشرعية في الداخل التي يدعوها لأن تسلّم سلاحها.
في قراءتي الجيو - سياسية لهذا القرار، ولما فيه من تحديات ومخاطر على داعميه خصوصاً على الذين سعوا لصياغته في عمقه وشموليته، رأيت من المناسب أن أبعث لصديقي الرئيس الحريري مع الصديق المشترك المرحوم الأب أنطوان خليفه، مشدداً على المخاطر الأمنية التي يمكن أن تنتج عنه. يومها أجابني الرئيس الحريري مع الأب أنطوان أنه صاغ لنفسه حماية أمنية بواسطة الرئيسين الأميركي بوش الإبن والفرنسي جاك شيراك. لكن هذه الحماية ذهبت أدراج الرياح. وسقط الرئيس الحريري شهيد القرار 1559!!