اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١ تشرين الأول ٢٠٢٥
النقابة إطار مهني يُفترض أن يعلو فوق الانتماءات الضيقة، لكنها لا تنفصل عن واقع المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه أعضاؤها. فالمحامي، بصفته مواطناً وفاعلاً في الشأن العام، يحمل معه إلى النقابة رؤيته ومواقفه، ما يجعل العلاقة بين الانتماء السياسي والعمل النقابي علاقة معقدة؛ قد تُثري التجربة وتمنحها بعداً وطنياً، وقد تُهدد وحدتها إذا غلب عليها الاستقطاب.
المحاماة بين رسالة العدالة وواقع السياسة
المحاماة ليست مجرد مهنة تقليدية تُعنى بالمرافعة أو تحرير العقود، بل هي رسالة تتجاوز حدود القاعة القضائية لتلامس جوهر المجتمع وقضاياه الكبرى. فالمحامي، بطبيعة تكوينه القانوني والمعرفي، يظل فاعلاً في المجال العام، شاهداً على مظاهر العدالة والظلم، ومشاركاً –بشكل مباشر أو غير مباشر– في الدفاع عن قيم الحرية وسيادة القانون. ومن هنا، فإنّ حضوره النقابي لا يُختزل في الجانب المهني فحسب، بل يتأثر بالضرورة بخلفياته الفكرية وانتماءاته السياسية.
هذا التداخل بين ما هو سياسي وما هو نقابي يُثير جدلاً دائماً: هل يُثري العمل النقابي ويُعطيه بعداً وطنياً ومجتمعياً، أم أنّه يُهدده بالانقسام ويُحوله إلى ساحة استقطاب حزبي؟
النقابة… بيت المهنة أم ساحة للصراع؟
الأصل في العمل النقابي أنّه كيان جامع يعلو على الانتماءات الضيقة. النقابة ليست حزباً سياسياً، ولا ينبغي أن تكون، فهي تُعنى بالدرجة الأولى بالدفاع عن حقوق أعضائها، وتطوير المهنة، وتوفير مظلة حماية في مواجهة التحديات المهنية والاقتصادية. وفي حالة نقابات المحامين على وجه الخصوص، فهي تمثل صوتاً جماعياً له مكانته في المجتمع المدني، خاصة في الملفات المرتبطة بالعدالة والحقوق الأساسية.
النقابة، بهذا المعنى، هي مساحة لتوحيد المحامين رغم اختلافاتهم السياسية أو الفكرية، ومؤسسة يُفترض أن تُعبّر عن المصلحة المهنية المشتركة لا عن خط سياسي بعينه. لكن الواقع لا ينفصل عن حقيقة أنّ كل محامٍ هو أيضاً مواطن ينتمي إلى بيئة سياسية واجتماعية معينة، ويصعب أن يُعلّق انتماءه الحزبي على باب النقابة عند دخوله.
السياسة تطرق أبواب النقابة
لا يمكن إنكار أنّ الانتماء السياسي يؤثر في طريقة ممارسة المحامي للعمل النقابي. ففي الانتخابات النقابية مثلاً، نجد أنّ كثيراً من المرشحين يلقون دعماً من أحزاب أو تيارات سياسية، ويستفيدون من شبكاتهم الحزبية في الحشد والتعبئة. كذلك، في المواقف العامة التي تتخذها النقابة –سواء تجاه التشريعات المتعلقة باستقلال القضاء، أو في القضايا الوطنية الكبرى– يبرز أثر الخلفية السياسية للمحامين في صياغة الخطاب النقابي.
قد يكون هذا التأثير إيجابياً إذا أسهم في تعزيز وعي النقابة بدورها المجتمعي، وربطها بقضايا الحرية والعدالة الاجتماعية. لكنه قد يكون سلبياً إذا تحولت النقابة إلى أداة في صراع حزبي، أو إذا جرى اختزالها في أجندة فصيل بعينه.
حين يُثري الوعي السياسي التجربة النقابية
من الإنصاف القول إنّ الحضور السياسي داخل النقابات المهنية، بما فيها نقابات المحامين، ليس شراً مطلقاً. بل إنّ له جوانب إيجابية لا يُمكن تجاهلها:
أ- تعزيز الوعي العام: المحامون المنخرطون في الحياة السياسية عادة ما يكونون أكثر اطلاعاً على التحديات الوطنية، ما يُمكّنهم من صياغة خطاب نقابي يتجاوز المطالب المعيشية إلى الدفاع عن منظومة العدالة ككل.
ب- القدرة على الحشد والتأثير: الانتماء الحزبي يمنح المحامي شبكات دعم أوسع، مما يُقوي موقعه النقابي ويُعزز حضور النقابة في الساحة العامة.
ج- إغناء النقاش الداخلي: التعددية السياسية داخل النقابة تفتح المجال أمام نقاشات عميقة حول دور المهنة وموقعها في المجتمع، بما يُثري التجربة النقابية ويمنحها حيوية متجددة
بين الانقسام وفقدان الاستقلالية
في المقابل، فإنّ تغوّل الانتماء السياسي على العمل النقابي يطرح جملة من المخاطر:
أ- تفكك الوحدة النقابية: إذا تحولت النقابة إلى ساحة استقطاب حزبي، فإنّها تفقد وظيفتها التمثيلية، ويشعر بعض الأعضاء بأنّ النقابة لا تُعبر عنهم.
ب- تسييس المطالب المهنية: حين تُختزل القضايا المهنية في خطاب حزبي، تصبح المطالب النقابية رهينة للتجاذبات السياسية، ما يضعف قدرة النقابة على تحقيق إنجازات عملية.
ج- فقدان الاستقلالية: النقابة التي تُهيمن عليها جهة سياسية بعينها قد تفقد مصداقيتها في الدفاع عن القضايا الوطنية، وتُتهم بأنها أداة بيد حزب أو تيار، بدلاً من أن تكون صوتاً مهنياً مستقلاً.
الطريق إلى نقابة مستقلة وقوية
الحل لا يكمن في نفي السياسة تماماً عن العمل النقابي، فهذا غير واقعي، بل وربما غير ممكن. فالمحاماة في جوهرها مرتبطة بالسياسة، لأنها تدور حول الحقوق والحريات والقوانين، وهذه كلها قضايا ذات طبيعة سياسية. لكن المطلوب هو تحقيق توازن دقيق بين الإنتماء السياسي والدور النقابي على الشكل التالي:
. أن يُمارس المحامي عمله النقابي بصفته ممثلاً لجماعة مهنية، لا مجرد امتداد لحزب سياسي-
. أن تستفيد النقابة من الخبرة والوعي السياسي لأعضائها دون أن تتحول إلى أداة حزبية-
. أن تُعطي الأولوية لمصالح المحامين المهنية وتضعها فوق أي اعتبارات حزبية أو أيديولوجية-
دروس من نقابات المحامين حول العالم
في كثير من البلدان، لعبت نقابات المحامين أدواراً محورية في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن هذه الأدوار كانت ناجحة فقط حين حافظت النقابة على استقلاليتها، حتى عندما كان قياديوها ينتمون لأحزاب أو تيارات سياسية.
ففي تجارب تاريخية، استطاعت النقابات أن توازن بين الانخراط السياسي والانحياز لمصالح أعضائها، فكانت صوتاً وطنياً جامعاً. بينما في حالات أخرى، حين طغت الحزبية على المشهد النقابي، انقسمت النقابة وتراجعت قدرتها على التأثير.
السياسة في حدودها… قوة للعمل النقابي لا عبء عليه
التداخل بين الانتماء السياسي والعمل النقابي للمحامي هو أمر واقع لا مفر منه، لكنه ليس بالضرورة عائقاً. بل قد يكون فرصة لتعزيز الدور النقابي إذا جرى ضبطه في حدود التوازن المطلوب.
المحامي، بحكم مهنته، مُطالب بأن يكون في طليعة المدافعين عن العدالة. وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ظلت النقابة بيتاً جامعاً لكل المحامين، بعيداً عن منطق الإقصاء والاستقطاب. فالسياسة، إذا حُصرت في حدودها الطبيعية، قد تُثري العمل النقابي، أما إذا تحولت إلى غاية في ذاتها فإنها تُهدد بتقويض وحدة الصف المهني وإضعاف قدرة النقابة على أداء رسالتها؟
إنّ المستقبل يقتضي بناء ثقافة نقابية ترى في التنوع السياسي مصدر قوة، لا سبباً للانقسام؛ نقابة تستفيد من طاقات أعضائها السياسية، لكنها تظل فوق الأحزاب، مخلصة أولاً وأخيراً للمهنة ولرسالتها في خدمة العدالة والمجتمع.