اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٦ كانون الأول ٢٠٢٥
وهي كلّ يوم تطفئ أضواء غرفتها، لكنها لا تنام، بل تخلد إلى اللوم طويلاً، ولا تعدّ الخراف، بل تعدّ خساراتها... وكان هو أكبرها. هي لم تتعافَ يوماً، بل أجبرت نفسها على التخطّي. تقول إنها سعيدة، أو تتظاهر بذلك، وهي تعلم أن أحلامها نقصت كثيراً؛ فقد سقط منها فستانها الأبيض، وزغرودة أمّها، وخاتم السعادة، وطوق الياسمين، وطفلة حلمت أن تكون يوماً بكر أبنائها، وبيتها المتواضع المليء بالحب والسعادة... وقلبه الذي مرّ في حياتها كنسمة أطفأت حرائق الروح.
ثم افترقا... كأنّ وجوده كلّه كان لتتعلّم كيف يكون الفقد حاضراً رغم كلّ الحب.
تتذكّر جيداً في لقائهما الأول كيف جلسا دون كلام، فكلّ ما لم يستطع القلب قوله كانت العيون تتكفّل به. لا بحرٌ ولا كلمات تفرّق بينهما، ولا صمتٌ يخذل هذا اللقاء. فالحب أحياناً لا يحتاج مدينة تحتضنه، بل لحظة صدقٍ واحدة تُنقذ العمر كلّه. هكذا هو الحب الحقيقي: اتفاقٌ صامت وعهدٌ يُقال بالنبض، لا بالحروف. فالكلام أقفال، والصّمت مفتاح يتيم. يكفي أن يجلس الشخص المناسب أمامك لتشعر أن الدنيا كلّها أخيراً وجدت مكانها الصحيح. أيّ صدفةٍ وضعته في طريقها، وكيف لتلك اللحظة بينهما أن تكون ممكنة لو لم يكن هو بكلّ ما فيه؟ منسوجاً من خامة قلبها، شبيهاً لروحها، متوافقاً مع نبض عقلها رغم كلّ الاختلافات وسلاسل العادات. يشبهها في كلّ شيء... إلى حدٍّ يخيفها ويطمئنها في آنٍ واحد. في المرّة الأولى كان يتأمّلها بصمتٍ مخيف، نظرة طويلة تشبه محاولة حفظها في ذاكرته قبل أن يعرفها حقًّا، مع أنّه كان يعرفها منذ اللحظة الأولى. ثم اقترب قليلاً، رتّب عقد الفولار المعلّق على حقيبتها، أحكم عقدته، ثم قال بنبرة هادئة وواثقة: «هكذا سنكون». كان لقاء قلبين، حديثاً طويلاً بلا كلمات، والتزاماً يُفهم بالعقل قبل أن يُقال بالقلب. مشروع العمر بدأ من تلك اللحظة، بُني صبراً وحباً وصدقاً وأملاً مستمرًّا... لكنها لم تكن تعلم أن القدر سيقودها إلى مفترقٍ يختبر فيه الحب صبرها، والألم صمتها.
جاءت إليه ذات يوم، امرأة تسير على حافة قرارٍ يمزّقها. أسيرة الظروف العائلية التي لم تمنح قلبها رفاهية الاختيار. وقبل رحيلها بدقائق، وقف أمامها بقامته الشامخة، وبصوت هامس مفعم بالحزن، سألها عن إمكانية أن يشاركها أخباره وأن يبقيا صديقين، فهو لم يثق يوماً بغير قلبها. كان طرفه شبه مطرقٍ معلقاً، يكاد يعانق عينيها، وهي تُبعد نظرها عنه خشية أن تنهار. جاء يودّع قلبها المفطور على الحزن والألم... أو لعلّه جاء يبثّ في عينها بعضاً من نوره البهيّ قبل أن تغيب إلى الأبد... لم تسأله حينها، على غير عادتها، إن كان سيتركها يوماً بسبب جنونها، فإذا به يفاجئها بصوت هادئ مملوء باليقين: «أنا معك، حتى وإن ابتعدتِ... لن أتركك».
بعده... تعلّمت أن ثمن الاحتفاظ به كان باهظاً، وهي لم تكن تملك دفعه. وتعلّمت أن الضربة التي لا تقتل تُكسِر بشدّة، وأن شيئاً غير الجماد لا يموت واقفاً. تعلّمت أن تفتح الأبواب التي تأتي بالريح، وأن تسأل الريح كلّ يوم عنه. تعلّمت أن الطيران بأجنحة الريش التي حلمت بها لا يتحقّق إلّا لعاشق صادق مثله. تعلّمت أن الحب الحقيقي كعود كبريت؛ إن اشتعل مرّة... لا يشتعل مرّة أخرى. تعلّمت أن البكاء سرًّا أسرع الطرق إلى الذبول، وأن الحزن صمتاً أقرب الطرق إلى الموت. بعده... تعلّمت أن أطفال الدفاتر يولدون ورقاً... ويشيخون ورقاً... ويموتون ورقاً، كأطفالها الذين ماتوا جميعاً بحادثٍ من القدر. وتعلّمت أن الجرح الذي ينزف يؤلم، وأن الجرح الذي يحتفظ بدمه يقتل. تعلّمت أن للموت وجوهاً كثيرة... أوضحها موت اللحد، وأقساها خسارته. وتعلّمت أن أباها لا يتكرّر... وأخاها لا يتكرّر... ووطنها لا يتكرّر... إلّا به، لأنه كان جميعهم. وتعلّمت أن الفوز بعدّ النجوم لا يكون إلّا إذا كانت الجائزة قلبه، وأن سباق الجري لا معنى له إن لم ينتهِ به، وأن البحر لا يُقطع... إلّا إذا كان هو على الضفة الأخرى. وتعلّمت أن المتدثّرة بمشاعرها البيضاء تُخيف... كالمتدثّرة بأكفانها؛ يفرّ منها الأحياء.
وها هي اليوم تكمل ما تبقّى لها من الوقت، وخنجرٌ في رحم هذا العمر ما انفكّ ينزف أنفاسه، وندبةٌ في قلبها بات يتناسل منها عطبٌ عاطفي... لا يلتئم.











































































