حين تصبح الكلمة مرآة بصرية للوعي الجمعي فنياً

تتنازع الحقيقة مع فائض المعنى في أعمال الفنانة المفاهيمية الأميركية جيني هولزر (Jenny Holzer) بوصفها صوتاً بصرياً ينحت الوعي عبر العبارات، وينقش اللغة على جدران الحياة اليومية، كما لو كانت تنقّب في طبقات الصمت الجماعي عن شرارة الإدراك الإنساني. في زمن تصطدم فيه الصورة بالكلمة، فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تبنّت هولزر استراتيجية جذرية في تعاطيها مع الفن أي الفن كرسالة مباشرة، والكلمة كأثر بصري لا يقلّ حضوراً عن اللون أو الخط أو الشكل. فقد حوّلت النصوص إلى وسائط بصرية، وزرعتها في الفضاءات العامة من خلال لوحات إلكترونية، شاشات إعلانية، نقوش حجرية، مقاعد، أضواء نيون، وحتى الإسقاطات الضوئية على المباني التاريخية. فهل الفن عند هولزر صدمة فكرية؟

لا تسعى هولزر إلى خلق الجمال بقدر ما تسعى إلى خلق التوتر. أعمالها تفرض التأمّل، وتستفزّك لتصطدم بالحقيقة. «حافظ على دفترك جاهزا»، «اللامبالاة تقتل»، «أفكارك تصبح جريمة»... كلها عبارات قصيرة، تشبه المانيفستو، لكنها تقطع الطريق على الحياد. إنها توصل رسالة غير قابلة للتفاوض الفن يدفعك لكن ليتدخّل، لا ليُزخرف. الضوء كلغة، فالنيون في هذا العمل لا يُستخدم للزينة أو الديكور، بل كأداة خطاب. الكلمات المضيئة ليست للقراءة فقط بل للتجربة البصرية والجسدية؛ الضوء يخترق الفضاء والمشاهد. كما أن تكرار الجملة يشبه اللطمات المتكررة على وعي المتلقّي، وكأنها صرخة احتجاجية جماعية. استخدام كلمة «KILLED» يجعل من النصب شهادة أو شاهد قبر لأفكار أو أرواح قُتلت بسبب «الغباء» أو ربما اللامبالاة السياسية أو الاجتماعية. فهل هذا التركيب المائل هو مائل أخلاقياً برمزيات متعددة؟

الزاوية التي وُضعت بها الأعمدة، وكأنها في وضعية سقوط، تحمل إحساساً بالهشاشة أو الخطر الوشيك. قد تدلّ على نظام اجتماعي أو أخلاقي على وشك الانهيار. اللون البنفسجي مع الأزرق النيوني يشكّل تفاعلاً بين السكينة والعنف، بين الروحاني والسيبراني، يوحي بعالم فانتازي مرعب أو مستقبل بارد مفرغ من المشاعر. تمثل أعمالها استمرارا للخط المفاهيمي الذي أسّسه بعض من الفنانين لكنها تتفرّد عنهم بجرأتها في إخراج الفن من النخبة إلى الشارع، من الغاليري إلى فضاء المدينة، حيث الجمهور ليس بالضرورة أن يكون مستعداً لـ«تلقّي فن»، بل يفاجأ به وهو يعبر تقاطع طرق أو يركب متروا.

تتعامل هولزر مع اللغة كجسدٍ حيّ قابل للجرح، والاندهاش، والمقاومة. في مشروعها الشهير «Truisms» (حقائق تافهة)، قدّمت ما يزيد على مئة عبارة قصيرة تُحاكي صوت الخطاب السلطوي أو الشعبي، لكنها من خلال التكرار والتجميع تكشف فراغها أحياناً… أو عنفها الرمزي في أحيان أخرى. عباراتها لا تسرد، بل تُفجّر إنها لا تنقل فكرة، بل تخلق حالة فكرية مضغوطة، كأنها قنبلة لغوية موقوتة. فما هو البُعد السياسي في أعمالها؟

على الرغم من كونها فنانة مفاهيمية، إلّا أن هولزر لم تكن يوماً محايدة. فقد اتخذت موقفاً جريئاً في أعمالها من قضايا مثل الحرب، العنف، قمع النساء، السلطة، الرقابة، والألم الإنساني. في سلسلة «Blue Purple Tilt»، استخدمت تقارير حكومية أميركية منقّحة حول التعذيب والحرب في العراق، وأسقطتها ضوئياً على الواجهات العمرانية، لتحوّل الوثيقة الرسمية إلى عمل بصري، ولتُظهر هشاشة السلطة أمام فعل الكشف. فهل الضوء أداة للوعي؟

يمثل الضوء عند هولزر وسيطاً للكشف، لا للزينة. فهو يسحب النص من الظلام إلى الحضور القسري. إن إسقاط العبارات على مبانٍ مثل متحف غوغنهايم أو مبنى الأمم المتحدة، يُعيد تعريف العلاقة بين السلطة واللغة. إنه فعل مقاومة، لكنه مقاومة ناعمة، بصرية، تتسلل إلى الوعي العام وتترك أثراً لا يُمحى. فما هي فلسفة الجمال عند هولزر؟ وهل الجمال كاشف للواقع لا مغطٍ له؟

بعيداً عن الجماليات التقليدية، فإن أعمال جيني هولزر تطرح فكرة الجمال بوصفه وعياً، لا زخرفة. فهي تُزيح الفن من موقع التأمّل السلبي إلى مساحة التفاعل الحاد، حيث تصبح الكلمة بحد ذاتها حدثاً بصرياً يُحرّك الإدراك، ويُعيد تموضع الإنسان في وجه الحقيقة. هذا العمل الضوئي، لا يقف المشاهد أمام قطعة جمالية فحسب، بل أمام احتجاج صامت ينبض بالضوء. قضبان النيون، المائلة كما لو أنها تستند على آخر رمق من توازن هش، تبدو كأنها مقابر مستقبلية أو شواهد قبور معلّقة في الفراغ.الجملة التي تتكرر على كل عمود:

«BECAUSE I WAS KILLED FOR STUPID...»

تعيدنا إلى جوهر الفن المفاهيمي: حيث لا يهمّ «ما ترى»، بل «ما تعنيه الرؤية». هنا، النيون ليس زخرفاً، بل شاهداً؛ يشهد على قتلٍ حدث، أو يحدث، أو سيحدث بسبب «الغباء»، تلك الكلمة التي قد ترمز إلى لجهل الجمعي، القمع، الحروب العبثية، الأدلجة العمياء، أو حتى أنظمة قتل الإبداع تحت شعارات تافهة. فهل هذا الفن يُجبرنا أن نرى الضوء لا كضوء، بل كنداء، كندبة مضيئة في وجه الظلام العام؟