اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
خاص الهديل….
كهرمان مصطفى…
شهدت الساحة التركية في اكتوبر 2024 تطوراً غير مسبوق، حين أعلنت الحركة القومية التركية، بقيادة دولت بهتشلي، اقتراحاً مثيراً للجدل يقضي بفتح مسار سلام جديد مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، عبر وساطة مباشرة مع زعيم الحزب المعتقل عبد الله أوجلان، وبموافقة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أتت المبادرة وكأنها تقول بأن الحزب قد شاخ، وأن زمن الكفاح المسلح لم يعد قادراً على تحقيق أي إنجاز للكرد، مقابل وعد تركي بدعم غير معلن لمنح الكرد في سوريا نوعاً من الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية بضمانات سياسية وأمنية.
أوجلان، وبخطوة وُصفت بالتاريخية، أعلن تجاوبه مع المبادرة، داعياً رسمياً إلى حل الحزب وإلقاء السلاح، مؤكداً أن المرحلة المقبلة 'هي مرحلة السلام لا الحرب'.
وتُرجمت دعوته سريعاً بمشهد رمزي حين أقدم مقاتلو الحزب على إلقاء أسلحتهم وحرقها في خطوةٍ لاقت صدى واسعاً، باعتبارها تنفيذاً فعلياً لتوجيهات قائدهم.
المرحلة التالية كانت الأكثر أهمية، إذ عُقد في القامشلي بمحافظة الحسكة اجتماع وُصف بالتاريخي، جمع مختلف القوى الكردية السياسية في سوريا على طاولة واحدة.
للمرة الأولى، اتفقت هذه القوى على رؤية موحدة لمستقبل الكرد في المنطقة، لحظة أقل ما يُقال عنها بأنها تمثل 'شروق شمس جديدة' في التاريخ الكردي.
قبل يومين فقط، أعلن الحزب انسحابه من الأراضي التركية باتجاه شمال العراق، بالتزامن مع دعوة رسمية وجهها إلى اللجنة البرلمانية التركية لبدء تنفيذ تعهدات الدولة لأوجلان، وفي مقدمتها إدخال تعديلات دستورية تكرّس المساواة بين الكرد والترك، وتفتح الباب أمام مسار سياسي جديد قد يُغيّر موازين الداخل التركي والإقليمي معًا.
من هنا، يُطرح السؤال الأهم:
هل ما يجري هو مجرد اتفاق تركي – كردي داخلي؟ أم أنه بداية مشروع إقليمي يُعاد من خلاله رسم خرائط النفوذ في شمال سوريا والعراق معاً؟
شمال سوريا اليوم يبدو وكأنه نسخة مطابقة لتجارب سابقة عاشتها المنطقة، خصوصاً تجربة إقليم كردستان العراق.
الأحداث تتسارع، والتحركات السياسية والعسكرية تتقاطع مع الأجندات الإقليمية والدولية، لتعيد طرح سؤال بسيط في ظاهره، عميق في مضمونه: هل نحن أمام إعادة إنتاج لنموذج بارزاني ولكن بنسخة سورية؟
من العراق إلى سوريا، تتشكل ملامح ما يشبه الممر الكردي – الأميركي الجديد، حيث تُنشأ قوى محلية محسوبة على واشنطن، تُقدَّم للعالم على أنها ركيزة 'الاستقرار' و'محاربة التطرف'، بينما الهدف الاستراتيجي يتجاوز ذلك بكثير.
اليوم، يبدو أن هذه التجربة تتكرر تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تراها واشنطن حليفاً موثوقاً في مواجهة 'داعش' والحد من النفوذ الإيراني، في حين أن الهدف الحقيقي يتمثل في قطع طريق الإمداد الإيراني نحو لبنان، تحديداً نحو حزب الله، وهو مطلب إسرائيلي قديم متجدد.
تتضح الصورة أكثر من خلال تصريحات ديفيد بترايوس، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، عقب لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع ع هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ وصف اللقاء بأنه 'لحظة غير واقعية'، لكون الرجل الذي كان في الماضي 'عدوا' للولايات المتحدة أصبح اليوم 'شريكاً محتملا' في إدارة سوريا الجديدة.
هذه التحولات تكشف كيف تعيد القوى الكبرى صياغة تحالفاتها تبعاً لمصالحها، وكيف يمكن لعدو الأمس أن يصبح شريك اليوم.
ويضيف بترايوس في تصريحه الأبرز:
'سوريا لم تعد حليفاً للنظام الإيراني، ولم تعد تسمح بمرور الأسلحة إلى حزب الله عبر أراضيها.'
هذه الجملة وحدها كافية لفهم حجم التحول الجاري في المنطقة. دعم 'الرئيس الشرع' ليس صدفة، بل جزء من مشروع أكبر لإعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، وتقليص النفوذ الإيراني، وربما إعادة إنتاج نموذج البيشمركة شمال سوريا تحت مسميات جديدة.
بترايوس نفسه يربط هذا المسار بتجربته السابقة في العراق حين قال:
'عملت مع البيشمركة لأكثر من عشرين عاماً، لم نكن فقط حلفاء، بل ساعدناهم على أن يصبحوا قوة محترفة ودمجناهم ضمن الجيش العراقي'.
السؤال الجوهري الآن: هل نحن أمام إعادة إنتاج للبيشمركة بنسخة سورية؟
هل ستصبح قوات 'قسد' جيشاً محلياً مرتبطاً بواشنطن، لكن ضمن تفاهمات مع دمشق، على غرار ما حدث في العراق بين أربيل وبغداد؟
عبارة بترايوس الأخيرة تكشف الكثير: 'نجاح الشرع سيكون نجاحنا أيضاً'.
من هنا نكتشف أنها ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل إعلان صريح بأن المشروع الأميركي في سوريا لم يُغلق بعد، بل يعاد رسمه وتحديثه تحت عنوان 'الاستقرار ومحاربة النفوذ الإيراني'.
ما يبدو للبعض مجرد مبادرات سلام أو انسحابات تكتيكية أو تحركات سياسية، هو في الواقع إعادة إنتاج لنموذج قديم تحت أسماء جديدة.
وبينما يخطو أوجلان نحو السلام، وتمضي أنقرة في مسار براغماتي غير مسبوق، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل نحن أمام سلام فعلي يطوي صفحة الدم، أم أمام بداية مرحلة جديدة من إعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث تتقاطع مصالح الأتراك والأكراد والأميركيين في مساحة واحدة من الشمال السوري؟











































































