اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٢ تموز ٢٠٢٥
لا يملّ زائر مونتريال من شعابها. تضيق عليه نواحيها لكثرة ما فيها من المشاهد التي تستحق، أن يفرد لها دفترا خاصا بها. تستحق كاميرا لا تفارق يديه، لإلتقاط هبات الطبيعة وصناعات أهلها الذين حملوا إليها، منذ خمسمائة عام. لا يزال نهر سان لورانس، كما نهر أوتاوا يذكّر السفن التي نزلت على ضفافه، تبني الثكنات والأبراج، وتشق الطرقات وترصفها، وتحيلها إلى قرى ومدن وجنائن، وعمارات سكنية.
طوت مونتريال بيوت سكانها الأصليين القدماء على أرضها، وصارت ترتفع مع المهاجرين إليها، عمائر لا يملّ منها النظر.
خطط مونتريال وسككها مستقيمة، تقاطعت فيها خطوط الطول، مع خطوط العرض، بلا تدرّجات ولا منعرجات تُذكر، تسهّل على الزائر أن يدخل إلى جميع شعاب المدينة، دون أن يخشى على نفسه، من الضياع في شعابها، يتتبّع العمائر القديمة التي بناها المهاجرون الأوائل، ويعجب بهذا النموذج الذي يقلد العمائر الفرنسية والإنجليزية، ويتفرّد عنها. أشاد الأولون عمائرها لغايات أمنية أولا، فأتت على شكل حصون، ولو كانوا يريدونها سكنية وتعليمية وصناعية وتجارية ودينية، كان الأمن هاجسهم الأول، حتى تمكّنهم على أرضها، فذهبوا فيها لغاياتهم الشتى.
كل العمائر التي أشادوها، حافظوا عليها. وهي اليوم تدلّ على القرون التي ظهرت فيها. ولهذا تجد في شعاب مونتريال وشوارعها وحاراتها، كيف تتجسّد تلك الأزمنة، حتى لتحسبها عيّنات على أزمنة مضت، وتركت في المكان روحها.
مونتريال، مدينة تنهض باكرا من نومها، تتفتح عثاكيل الزهر والورد، باكرا، ولو أعياها السهر حتى آخر الليل، تنام على الأرصفة وتستيقظ على الأيدي التي أتت باكرا لتزورها، تتفقّدها بعنايتها، لعلّها عطشى، أو منها بعض الوريقات الذابلة. كل الدروب في مونتريال، مفروشة بالأزاهير، اتخذت منها سجاجيدها، وحاكها أهلها بعناية فائقة.
محروسة مونتريال، بنهرين عظيمين: سان لورانس وأوتاوا. وهما اللذان يشكّلان هذه الجزيرة المعجبة. وأما المسطحات المائية فيها، فحدّث عنها ولا حرج. فمونتريال تنام على ماء السماء، وهي إذا ما استيقظت، عامت، كما عوامة تجري في النيل، ويجري ورائها أهلها يتعلقون بأذيالها، ويهزجون بها.
كيفما توجّهت في نواحيها، تصابحك الغابات والبرك والبحيرات والجسور بينها. تصاحبك حتى المساء، وربما لآخر الليل والإشراقة التالية. تناديك مع الأطيار المقيمة والمهاجرة. فمونتريال بلد المهاجر، من أي جهة أتى، ولأي جهة أرادها.
أسواق مونتريال، تنتشر في أوساطها وفي جنباتها كلها، تستقبل الناس زرافات ووحدانا. تحضّرت لهم في جميع الفصول، بمحطات الميترو، وبالمولات التي لا تغصّ بمن نزل إليها، لأن الطبيعة أكرمتها، فبادلت أهلها وزوارها، وجعلتهم أمانات في عنقها وعلى صدرها.
يقف جبل رويال قبالتها، ويدير لها وجهه المشرق بخضرة غاباته الكثيفة، ويرسل لها أشطانه، حبالا حبالا، يدعو أهلها للتسلّق إليه، وقضاء يوم ممتع، بين دروبه التي تخيّم عليها الظلال، ويتخلل فيها الهواء، ويبسط راحتيه، لاستقبال الزوار بخيامهم ودراجتهم، وقد أفرد لهم سككا عظيمة لسياراتهم، وأرشدهم إلى محطات الراحة والقيل فيها.
تبدو سفوح جبل رويال، أعظم من منتجعات للراحة والشمس والإستلقاء في أحضان الطبيعة الهادئة.
يخرج الناس عائلات عائلات إليه مع الصباح الباكر، ليكونوا معه في استقبال شروق الشمس ونزولها ضيفا عزيزا عليه. فهلا سألت كيف يرحّب بضيفانه لدى الغروب، وكيف يسامرهم، حتى سويعات الفجر؟!
جبل رويال حلّة سعيدة للمدينة التي سُمّيت على إسمه: مونتريال. هو في أنظار أهلها جميعا في الصباحات وفي العشايا. ينامون على حلم به. وحين يستيقظون يفسرون أحلامهم بين يديه. كأن جبل رويال عندهم، كما كان لدى السكان الأصليين، من الكهانة.
مونتريال مدينة على شكل عوامة، كل ما تحتها الماء، وكل ما فوقها أيضا. ترى الأنابيب في جميع حدائقها، تنفح العشب الأخضر والزهور والورود والعرائش، بهباتها. تجدّد شباب المدينة وترقى بها مدينة في حديقة عامة، مدينة في حديقة دائمة.
لا تعرف مونتريال الزحام، في أي شعب من شعابها، تبسط لهم نواحيها، وتجعلهم يضيقون بها. ما هذه المدينة الرائعة! ما هذه المدينة الكريمة! كأن الكرم والنجابة جزء من شعابها، حين تمرّ بمطاعمها، وحين تقف على أبواب كلياتها وجامعاتها ومدارسها.
تدور الساعة فيها على إيقاع القلوب، تجعلك تشتهي، أن تخرج إلى جميع نواحيها دفعة واحدة. وأما شبكة الميترو، فهي الدروب التي تسيل إلى القرى والبلدات والجزر حولها، الأمن سياج الشذاذ فيها، وهل تخلو مدينة من الشذاذ ومن شواظهم فيها، إلّا في مونتريال، تقول حقا: إنها مدينة آمنة، ترعى حقوق جميع النازلين إليها. فلا إفراط، ولا تفريط، بل بالعدالة الدائمة.
أستاذ في الجامعة اللبنانية