اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
جنان العلي
يقولون إن الجواد حين تُكسر إحدى قوائمه يُقتَل، ليس لأن الموت عقاب، بل لأن العيش مع العجز يُعدّ خيانةً لجوهره وكرامته وعنفوانه. الجواد خُلِق ليجري، ليشقّ الريح ويقيس المسافة بين الحرية والهاوية بخطواته. في عينيه، الركض ليس مجرّد حركة، بل هو معنى الوجود نفسه. حين يُكسر ساقه، يُكسر المعنى الذي يعيش من أجله، فيغدو البقاء ضرباً من القسوة. يُكسر العالم الذي في داخله، ذلك الإيمان البدائي بأن الحركة خلاص، وأن الركض حياة لا تُقال بالكلمات. فحين يتوقّف الجواد عن الركض، لا يعود جواداً، بل ظلًّا لجوادٍ كان، ولهذا يُقتَل - لا قسوةً، بل وفاءً لجوهره. إن قتل الجواد ليس فعلاً وحشيًّا، بل اعترافٌ بشراسة الألم، بفكرة أن بعض الكسور لا تُرمَّم. وربما نحن أيضا، حين نصمت بعد الإنهاك، نُعلن موت شيء فينا. نموت لا لأننا نريد الرحيل، بل لأننا فقدنا القدرة على الإستمرار دون جناح الأمل. ربما القسوة الحقيقية ليست في قتل الجواد، بل في إجباره على البقاء مكسوراً ومتألّماً، في أن نطالبه بالصمود بينما كبرياؤه مكسور. وكذلك الإنسان، حين يُطلَب منه أن يبتسم وهو ينهار، أن يصمد ويواصل السباق وقد فَقدَ نفسه في الطريق. إن الألم، في جوهره، امتحانٌ للكرامة: هل نستطيع أن نحيا ونحن نعلم أن شيئاً فينا قد انكسر إلى الأبد؟ وهل يكون البقاء حينها بطولةً أم خيانةً لذواتنا؟ وهذه الفكرة ألهمني فيها الكاتب هوراس ماكوي في روايته حين كتب: «إنهم يقتلون الجياد لأنها لا تحتمل الألم… فماذا يفعلون بالبشر الذين لم يعودوا يحتملون الحياة؟».
البشر لا يُقتلون بالرصاص كما الجياد، بل يُتركون ينطفئون ببطءٍ في صمت الخيبة، تحت أوزان اللاجدوى. تُدفن أرواحهم وهم على قيد الحياة، لا في المقابر، بل في رتابة الأيام، في سباقاتٍ لا يفوز فيها أحد، حيث يُقاس الوجود بالقدرة على التحمّل لا بالقدرة على الحلم. إنهم لا يُجهِزون علينا كما يُجهز الطبيب على الجواد المعطوب، بل يتركوننا نحيا في عجزنا، نتنفس الألم، ونجرّ أرواحنا كما تجرّ الجياد عرباتٍ من رماد. الفرق أن الجواد يُقتل احتراماً لكرامته، أمّا نحن فنُترك أحياء لأن موتنا الداخلي لا يزعج أحداً ولا يؤثر على أحد ولأن كرامتنا تتقلص في صمت الأيام. في هذا العالم، يختبر الإنسان شكلاً جديداً من الإعدام: حياةٌ بلا اندفاع، بلا غاية، بلا سعي نحو معنى. كل سقوطٍ لا يُنهي السباق، بل يُجبرنا على النهوض الميكانيكي، كأننا آلاتٌ مبرمجة على النجاة لا على الحياة. الجياد تموت بكرامة، واقفةً وشامخة، أما البشر فيموتون وهم يسيرون، يبتسمون، يتظاهرون بالقوة، بينما في أعماقهم تصهل الرغبة في راحةٍ أخيرة وأبدية، في طلقةِ رحمةٍ لا تأتي. ربما لهذا كان موت الجواد العاجز أكثر عدلاً وحكمةً من حياتنا... لأنه يُقتل حين يفقد قدرته على الحركة بحرية وبكرامة، ونحن نُترك نعيش بعد أن فقدنا كل ما يجعلنا أحياء. والمأساة الوجودية لا تكمن في الألم نفسه، بل في وعينا به. فالوعي هو الجرح الحقيقي: أن ندرك أننا نعيش رغم انكسارنا، أن نحمل ذواتنا كما يحمل الجواد المكسور ظلّ ساقه المبتورة في ذاكرته. إن الإنسان كائنٌ يُعاقَب بالوعي، بالقدرة على تذكّر لحظة السقوط مراراً، بالبحث عن معنى في عالمٍ نسي كيف يمنح المعاني. ربما كان الجواد أصدق منّا، لأنه يرفض الحياة الناقصة. أما نحن، فنصالح الألم ونتأقلم معه، نُرمّم الكسور بالوهم، ونسمي العيش الطويل صبراً. ونُهادن الذكرى التي تغتالنا كل ليلة، كأننا نخشى الحياة من دونها، ونعيد تذكّرها لنجلد أرواحنا بمرارة النجاة، كأن الألم أصبح طريقتنا الوحيدة للشعور بأننا ما زلنا أحياء. نُطيل البقاء بدل أن نحيا، نُداوي العجز بالتأقلم، وننسى أن الكرامة ليست في استمرار الجسد، بل في بقاء المعنى. ومع ذلك، لا أحد يعلّمنا كيف نحيا بعد الفقد، بعد أن تنكسر فينا الرغبة الأولى. نرمّم هشاشتنا بالاعتياد، ونُقنع أنفسنا أن النجاة شكلٌ من أشكال البطولة، بينما هي في الحقيقة تسويةٌ مع العدم. نعيش لأننا خائفون من مواجهة النهاية، لا لأننا ما زلنا نؤمن بالبداية. ربما نحن لا نحتاج إلى من يُنقذنا من الموت، بل إلى من يُنقذنا من الحياة التي لا لم تعد تشبهنا. فالبقاء ليس دائماً انتصاراً، أحياناً يكون استسلاماً ناعماً، يُخفي خلف الهدوء رغبةً صامتة في الانطفاء. لذا يتحوّل الألم إلى طقسٍ يومي، والاحتمال إلى واجبٍ وجوديٍّ لا فرار منه. في أعماق كل إنسان منا جوادٌ خفيّ صامت، يركض ما دام الحلم أمامه، ويذبل حين يفقد الأفق. جوادٌ يركض دون توقف رغم الكسور، رغم الألم، رغم العبث. لكنّ الفرق أننا لا نُطلق عليه الرصاصة، بل نُبقيه حيًّا ليُعاقَب بالركض داخل قفصٍ من الذاكرة، قفصٍ لا يرى منه سوى ما كان. إنها قسوة الإنسان على ذاته، قسوة الوعي حين يُدرك أن العجز عن الركض لا يعني فقط توقف الحركة، بل توقف المعنى، توقّف الصيرورة التي تبرّر البقاء. ربما لا يُقتل الجواد احتراماً لكرامته فحسب، بل لأن موته يذكّرنا بما فقدناه نحن: الجرأة على إنهاء ما لم يعُد يستحق الاستمرار.
نحن نختبئ خلف فكرة الأمل كذريعة للهروب من الحقيقة، نُؤجل موتنا الرمزي كل يوم، ونسمّيه صبراً أو حِكْمَةً أو نضجاً. في النهاية، لا شيء أكثر مأساوية من إنسانٍ يعيش دون أن يختار، يركض دون أن يعرف إلى أين، ويبتسم كي لا يعترف بأنه منذ زمنٍ بعيد جداً، مات دون أن يُطلق عليه أحد رصاصة الرحمة. أفهم تماماً تلك الجياد المصابة المتألّمة التي لم تعد تقوى على الركض، وأشعر بعنفوانها المستميت في مواجهة الألم الذي يُثقلها. وأتمتم مثلها: «إنهم يقتلون الجياد… أليس كذلك؟» وأردد، في صمت قلبي: «أنا أيضاً... أنا مثلها».











































































