اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٢٦ أيلول ٢٠٢٥
سبعة أشهر مرّت على تشكيل حكومة نواف سلام، وهي فترة كافية لإجراء تقييم جدّي لأدائها، أقلّه على مستوى الأفكار. فالحكومات تُقاس أولاً بما تطرحه من رؤى وأفكار، قبل أن تُحاسَب على ترجمتها إلى مشاريع تنفيذية ونتائج ملموسة، بخاصة في لبنان.
فنحن ندرك عمق وتجذّر أدوات النظام اللبناني المعرقلة لكل تغيير جوهري، فلا نكون واهمين بأن حكومة شكّلتها الأطراف السياسية والاقتصادية المعتادة، قادرة على القيام بإصلاحات حقيقية تنشل لبنان من أعمق أزمة مالية-اقتصادية من صنع البشر، وقد صُنِّفت ضمن أسوأ 3 أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
طبعاً التفاعل مع هذه الأفكار يتطلب منا أن نحيّد احتلال إسرائيل للبنان وجولات العنف والإرهاب المتكررة التي تقوم بها، كما يفعل هذا العهد عندما يتكلم عن الإصلاحات الاقتصادية ورؤيته الطموحة للبنان. لكن مهمة التحييد تزداد صعوبتها في ظل صراحة فجة تمارسها معنا أميركا، وقد أخبرنا حديثاً مبعوثها الخاص إلى سوريا توم برّاك في حديثه إلى 'سكاي نيوز' العربية، عن 'وهم السلام' في الشرق الأوسط.
لكن، فلنضع جانباً كل ما تقوم به إسرائيل، ونتفضّى للتفاعل مع أفكار صادقة في نواياها، وهذه الأفكار يمكن جمعها من مصادر عدة، منها البيان الوزاري وبيانات رسمية ومقابلات صحافية ومؤتمرات عدة قام بها رئيس الحكومة والوزراء منذ شباط/ فبراير 2025، تحدثوا فيها عن خطط رسمية أُطلقت ومشاريع أُقرّت مع جهات دولية وإقليمية، وآخرها إعلان وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط عن مؤتمر بيروت 1 الاستثماريّ، والذي ينوي إطلاقه في تشرين الثاني/ نوفمبر من هذا العام، وهدفه إعادة لبنان إلى خارطة الاستثمارات العالمية وضخّ 120 مليار دولار من الاستثمارات لتغذية نموّ الاقتصاد حتى يبلغ حجمه 60 مليار دولار في 2035.
الإعلان الأخير من المفروض أن يعكس نضجاً في الأفكار وثقة بقدرة لبنان على الإقناع، أي أننا قادرون على إقناع المستثمر العربي والدولي والقطاع الخاص اللبناني بما تقدمه الحكومة من رؤية اقتصادية ودور اقتصادي يستطيع لبنان أن يلعبه في ظل المتغيرات الكثيرة. فما هي هذه الأفكار التي نستخلصها من إطلالات إعلامية متكررة ونشاطات عدة لإطلاق مشاريع والإفصاح عن سلم الأولويات وخطط وطنية وقطاعية؟
يمكن تصنيف هذه الأفكار ضمن مجموعتين رئيسيتين: الأولى هي 'ميزة لبنان' وما تتضمنه من افتراضات وتوقعات حول دوره الحالي والمستقبلي والقطاعات الاقتصادية التي قد تعزز مكانته إقليميًا ودوليًا. أما المجموعة الثانية فهي تتضمن أفكاراً تدور في فلك 'التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي'، وغالبًا ما تتسم هذه المقاربة بحشو مصطلحات عدة من دون البحث في أبعادها ودلالاتها مثل 'اقتصاد المعرفة'. وحديثاً، برزت ظاهرة استخدام مصطلح 'تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي'، وأطلقت مبادرات إنشائية عدة نادت بدور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحسين الإنتاجية وزيادة التنافسية عبر خفض التكاليف ومكافحة الهدر والفساد وتطوير خدمات جديدة، الخ… وكأن التكنولوجيا منزّهة عن السياسة والمصالح الفئوية.
وكان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون افتتح 'مؤتمر الحكومة الذكية' في تموز/ يوليو 2025 قائلاً: 'جئت لأطلب اليوم أن تصبح الرقمنة في لبنان رؤية بعيدة المدى'. فيما اختتم رئيس الحكومة نواف سلام المؤتمر نفسه بالتشديد على أنّ 'التحول الرقمي ليس ترفًا بل ضرورة'. وعلى أقل تقدير، تهدف الرؤى الاقتصادية عادةً إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام، أي نمو لا يقوم على فقاعات في الاستثمارات المالية أو العقارية، بل يسعى إلى خلق فرص عمل وتحفيز الاستثمار المنتج والحد من الفقر.
فهل هذه الأفكار قادرة فعلًا على تقديم مشروع اقتصادي جدي للبنان في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية؟ وكيف يمكن ذلك وهي قائمة على مجموعة أوهام، منها ما تجاوزَه الزمن – مثل 'الدور الوسيط للبنان' – ومنها المستجد، أي ذاك الذي يقارب الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي ببراءة، إن لم نقل بسذاجة مفرطة؟ والأهم، أنها تفتقر إلى أي مقاربة طبقية للاقتصاد، فمن الخاسر ومن الرابح في التحول الرقمي؟ وهل يساهم هذا التحول في ردم الفجوة الطبقية أو يزيدها توسعاً؟ وهذه أسئلة بديهية نفترض أنها تُسأل، ولكن لا يصلنا ما يدلّ على ذلك.
الوهم الأول: 'ميزة لبنان ودوره كوسيط اقتصادي-تجاري'، ليس من مشهد أبلغ للتعبير عن خصوصية لبنان من ذاك الذي ظهر فيه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في القصر الجمهوري في آب/ أغسطس الماضي، وتناقلته وسائل الإعلام، حين قال إن لبنان 'يليق به أن يكون منطقة سياحية ومصرفية، لا ساحة نزاعات'. والمفارقة، أنّه هو نفسه الذي طالب مطلع هذا العام بتحرير ودائع السوريين من المصارف اللبنانية. فعن أي منطقة مصرفية يتحدث إذاً؟ وأيضاً، في كلمته خلال القمة العربية التنموية في أيار/ مايو الماضي، قال رئيس الحكومة نواف سلام إن 'لبنان يسعى اليوم ليس فقط إلى التعافي، بل إلى العودة إلى موقعه الطبيعي في الحضن العربي'. فعن أي موقع طبيعي يتحدث سلام وما زال الغموض يكتنف قانون إصلاح أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها ومصير أموال المودعين؟
وفي حديث له لـ'العربية الحدث' هذا الشهر، أخبرنا وزير مالية الحكومة ياسين جابر أن أموال المودعين في البنوك اللبنانية ستُعالج عن طريق منحهم سندات. وقد سبق لوزير الاقتصاد عامر البساط أن قدم في شباط/ فبراير 2025 في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، ورقة بحثية مشتركة مع إسحاق ديوان بعنوان 'نحو لبنان جديد مُنتج'، وهي منشورة باللغة الإنكليزية على موقع المعهد.
تعرض الورقة ملامح جديدة وتجزم بأن النموذج الاقتصادي للبنان القديم قد مات، فأين أصبحت هذه الملامح والتشديد على قطاعات عدة بعيداً عن الثنائية الخدماتية التقليدية 'مصارف-سياحة'، ومعطوفاً عليها دور أكبر للمغتربين؟
وأصبحنا أخيراً لا نسمع إلا السرديات القديمة عن استرجاع لبنان دوره التقليدي والطبيعي. فكيف نتحدث عن دور لبنان الطبيعي كوسيط اقتصادي-تجاري على رغم المتغيرات الداخلية من ناحية انهيار القطاع المصرفي، والخارجية من ناحية بروز دور اقتصادي لسوريا، حيث أن الاستثمارات والوعود الدولية والعربية والخليجية لا تلتفت إلا صوبها مع عودتها إلى النظام العالمي، وقد أعلن الشرع الشهر الماضي عن استقطاب استثمارات أجنبية بقيمة 28.5 مليار دولار وتوقيعه اتفاقيات كثيرة مع جهات أجنبية للاستثمار في المرافئ، ومنها طرطوس واللاذقية.
الوهم المستجد: 'الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا ونعيم الـAI، أما الوهم الآخر التي يسوّق له فهو ليس جديداً أيضاً واتخد مسميات عدة في العقد الأخير ومنذ حكومات سعد الحريري، وكانت كل حكومة جديدة تخبرنا في بيانها الوزاري عن تبنيها الاقتصاد الرقمي والاستثمار في التحول الرقمي والتحديث.
وغالباً ما يطرح الاقتصاد الرقمي على أنه منزوع من السياسة والمصالح، وأنه – انطلاقاً من طبيعته – يؤمن الصالح العام ويحد من البطالة ويعالج الفقر ويؤمن مساواة اجتماعية-اقتصادية. وهذا غير صحيح. ففي عام 2021، أشرفت على ثماني أوراق بحثية في منتدى البحوث الاقتصادية للبحث في العلاقة بين التحول الرقمي وخلق فرص العمل والفقر، وأظهرت جميع الأوراق البحثية ألا علاقة مباشرة بينهما، لا بل قد تكون العلاقة سلبية في كثير من الأحيان، أي أن التحول الرقمي قد يوسع الفجوة بين فئات المجتمع.
في أميركا يكثر الحديث عن احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى واستفادتها من برامج البحث والتطوير الممولة من وزارات وهيئات مثل وزارة الدفاع ووكالة ناسا. وعالمياً، يتصاعد النقاش حول دور الشركات التكنولوجية الكبرى في العسكرة والأمن وسيطرتها على مرافق حيوية في ظل سباق محموم بين أميركا والصين تتخلف عنه القارة الأوروبية بسبب فرضها قيوداً ناظمة للحماية والحد من الاحتكار. وكان الرئيس التنفيذي لشركة 'أوبن إيه آي' سام ألتمان، صرّح العام الماضي بأن شركته قد تغادر أوروبا إن تعذّر تعايشها مع قواعدها الناظمة.
ومنذ شهرين، امتنعت شركتا 'ميتا' و'آبل' عن طرح بعض منتجاتها في أوروبا. وأيضا تتطرق تحقيقات كثيرة في الصحافة الأجنبية وأيضاً منظمة هيومن رايتس ووتش عبر تقاريرها، إلى سيطرة عسكريين وأمنيين إسرائيليين سابقين على قطاع الذكاء الاصطناعي مثل دور الوحدة 8200، فنعيم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من الصعب أن يصلنا فيما أوروبا تنازع. وما بين الوهمين، يترنّح لبنان، مصاباً بجمود في الأفكار الاقتصادية والنموذج الجديد له.