اخبار سوريا
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٠ أيلول ٢٠٢٥
النظام الجديد في دمشق يسعى إلى بناء منظومة اقتصادية تقود البلاد نحو إعمار حقيقي
مع وصول 'إدارة العمليات العسكرية' إلى الحكم في سوريا عقب إسقاطها نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، شرعت سريعاً في إعادة بناء نفسها انطلاقاً من إعلان انتهاء الثورة وضرورة بناء الدولة، وما انبثق عن ذلك من مؤتمر حواري مقتضب وتشكيل حكومي وتعيين رئيس موقت، وإعلان دستوري وتمهيد لانتخابات برلمانية.
وبمعزل عن الأخطاء الجمة التي طاولت مرحلة الأشهر التسعة تلك، بما وقع فيها من تجاوزات قانونية ودستورية واجتماعية وميدانية وعسكرية، إلا أن السلطات وضعت فعلياً بنك أهداف مستعجل لتحقيقه، حمل أهدافاً تكتيكية وإستراتيجية على رأسها الشروع في بناء منظومة محلية وإقليمية ودولية تعنى بملف الاستثمارات، والتي سيكون من شأنها أن تمثل رافعة حيوية للبلاد تهيئ لها ظروف القوة التي تقودها نحو إعمار حقيقي يصحح مسارها وما كان يثقل كاهلها لعقود طويلة، وبخاصة خلال الـ 15 عاماً من عمر الثورة فيها.
تلك الرؤية جاءت محمولة من الانفتاح الخارجي الواسع على الداخل السوري، واستناداً إلى ما بدر من النيات الصادقة للحلفاء والأصدقاء، وضرورة تدعيم الشرعية بإبراز القوة الاقتصادية التي تسعى السلطة إلى إيضاحها كواحدة من منجزات الثورة وانتصارها، وقد يكون هذا دقيقاً في مكان ولكنّه في مكان آخر حمل مزيجاً من التضليل والتلاعب بالسلطة نفسها، حين أبدت التزامات ثقة بجهات ورطت معها الحكومة السورية أمام شعبها في استثمارات وهمية أو لا يمكن تحقيقها، ليبرز التحرك الخليجي في دور المخلص الأكثر صدقاً.
خلال الأشهر الماضية تركزت الأعين الاستثمارية الخارجية والداخلية على سوريا، فحظيت البلاد بجملة مؤتمرات انبثقت عنها مذكرات تفاهم أولية تتعلق بالشؤون المعمارية بين حكومات إقليمية ودولية وشركات كبرى مستقلة ومحلية، وواجهات ووسطاء آخرين مقدمين تصوراتهم كل حول مشروعه في الإطار المعني به، وبما مجموعه مليارات الدولارات، في قطاعات المطارات وصيانتها وتأهيلها وتحسينها وزيادة استيعابها، وفي الإسكان والبنى التحتية والطاقة والنقل والإسكان.
تلك المشاريع التي عرضت على سوريا وجرى عرضها على الجمهور بصورتها العامة لا التفصيلية تراوحت ما بين حزم إستراتيجية كبرى مثل الاتفاقات الأخيرة الشهر الماضي التي قدّرت بـ 14 مليار دولار، وشملت 12 اتفاقاً جرى توقيعها بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع والمبعوث الأميركي توم براك، وأهمها كان ما يتعلق بتطوير مطار دمشق الدولي ومشروع مترو دمشق ومجمعات سكنية ضخمة على شكل أبراج، وهو نموذج عمراني غير مألوف عامة في سوريا، وكل تلك المشاريع والاتفاقات حملت صبغة 'مذكرات تفاهم' فقط، أي أنها لم تدخل حيز السريان الذي يترجم بخطوات تنفيذية مالية وفنية ولوجستية واضحة.
ويمكن من بين مجمل الاتفاقات تمييز تلك ذات الطابع الإستراتيجي المقدم من شركات احتوائية مثل مشروع تطوير وتشغيل ميناء طرطوس الساحلي بقيمة 800 مليون دولار والمقدم من قبل الإمارات، في هدف اقتصادي نحو المياه الدافئة لتأمين ممرات تجارية واعدة وبنى تحتية لوجستية فائقة الأهمية في ظل مشاريع الاقتصاد الدولي المفترض مرورها من سوريا.
وإضافة إلى ذلك يبرز الاهتمام الخارجي بمشاريع النقل والطاقة، وتمثل ذلك بصورة أولية عبر التفاهم السوري والتركي والأذربيجاني لمد الغاز باتجاه سوريا وتعزيز محطات الكهرباء فيها، إضافة إلى اتفاقات أخرى مع قطر وتركيا تتعلق بربط الشبكات وإعادة تشغيل محطات التوليد، والأهم كان التوقيع السابق مع السعودية على 47 مذكرة تفاهم بقيمة 6.4 مليار دولار في مختلف الجوانب الحيوية.
وتلك العقود وإن اتسم بعضها بوضوح شديد ورغبة تنفيذية كبيرة لكن كثيراً منها كان مبهماً في الجانب المتعلق بالملّاك الحقيقيين للشركات المستثمرة والمعلنة خارج إطار العقود المبرمة من قبل حكومات رسمية، وهو ما لم تفصح عنه أي من الجهات ذات الصلة، ليقود الأمر نحو سؤال جوهري يتعلق بطبيعة التمويل المرتبط بشركات خاصة، وإن كان قادماً عبر مستثمرين أجانب أو عبر قنوات ائتمان إقليمية ذات ملاءات مالية قادرة على التنفيذ الكامل، كما فعلت تركيا وأذربيجان في عقود توريد الغاز.
وفي جملة ما يمكن أن يسأله السوريون للسلطة ما يتعلق بالتفريق بين العقود التفاهمية والصيغ التنفيذية والمدد الزمنية والشروط المتعلقة، وما هي حصة الدولة الفعلية من مواردها الحيوية وسيادتها الداخلية الاقتصادية.
يرى اقتصاديون أن من بين أهم مشاريع الاستثمار التي جرى طرحها ما يتعلق بمطار دمشق الدولي الذي قاربت نسبة الاستثمار فيه حدود 4 مليارات دولار، على أن تتولاه شركة (UCC Holding) القطرية بالتعاون مع شركات تركية لتطوير جوانب بنيوية أخرى في المطار، ولكن أثير حول الشركات التركية كثير من الجدل واعتبرت واجهات تزييف لعدم وجود بيانات حقيقية حولها، مما جعل المشروع نفسه يتعرض لكثير من المجابهات والتساؤلات والمطالبات بإبراز البيانات المالية للشركات الموقعة على العقود الأولية.
وبالعموم فإن مشروع تطوير المطار حمل صيغة (BOT)، أي 'بناء وتشغيل ونقل'، ويتضمن توسعة المدرجات وزيادة الطاقة التشغيلية وإعادة التصميم زيادة القدرة الاستيعابية لنحو عشرات ملايين المسافرين سنوياً، وربطاً تشغيلياً مع شبكات النقل الأخرى.
وبعض ما يثير القلق في عموم الاستثمارات المزمع تنفيذها هو غياب النسخة الأساس لمسودة التوقيع وما تتضمنه من بنود ترتبط بالمراحل الزمنية والالتزامات المالية النافذة، وشروط التحويل من تفاهم إلى تنفيذ، والجهة التي تتولى التحكيم في المنازعات إن وقعت مستقبلاً، وتفاصيل إدارية ومالية وقانونية أخرى، ولعل أهمها يتعلق بمصدر التمويل الابتدائي إن كان مرتبطاً بأشخاص مستقلين أو بنوك داعمة أو حكومات مستثمرة بنفسها، والجانب المتعلق بالضمانات المقدمة للأرض المستضيفة للاستثمارات من حوافز أو ضرائب أو امتيازات، وفي كل ذلك لم يعلن المتعاقدون تفاصيل عمليات التمويل وسياق الالتزامات الجزائية بين الطرفين.
ومن بين المشاريع المهمة مترو دمشق بقيمة ملياري دولار عبر شركة استثمارية إماراتية، لتقوم بتنفيذ المشروع الذي يربط حيزاً واسعاً من العاصمة ببعضها ممتداً لكيلو مترات عدة، وبقدرة استيعاب نقل كبيرة للمواطنين، وبحسب الباحث الاقتصادي مؤيد الطويل فإن ملف المترو يعتبر شائكاً ومعقداً، ويبرر ذلك بقوله إن 'مشاريع النقل المرتبطة بتنفيذ مترو يتداخل بصورة بيّنة مع مخططات استخدام الأراضي الأساس التي سيمر بها أو سيحتاج إلى المرور بها قبل تجهيزها، وهذا يتطلب عمليات معقدة ومترابطة من تطوير في الأحياء نفسها، ومشكلات تتعلق بنزع ملكيات سكنية وقضايا قانونية ترتبط بتعويضات عادلة'.
وأضاف الطويل أن 'أي خطأ بسيط في سياق التنفيذ سيحول المشروع من وجه حضاري إلى آلية ظلم سكاني قد يكون من نتائجها تهجير بعض الساكنين عبر تحويل ملكياتهم تحت ضغط الصالح العام، ولذلك يجب درس المشروع بصورة جدية أكثر وذات أبعاد أوسع تضمن حقوق الناس في أماكن مرور المشروع، لئلا تعاد مظالم الأمس في التأميم ومصادرة المساكن واستملاك الأراضي، والأفضل إيجاد ميزان عادل للتسوية قبل التنفيذ'.
وتابع الباحث الاقتصادي أن 'مشاريع المترو تتسم بالصبغة طويلة الأجل، خصوصاً في الواقع السوري انطلاقاً من الهندسة المعمارية القائمة أساساً، إضافة إلى ضرورة إيجاد عقود هندسية دقيقة وآلية تزويد قطع غيار وتشغيل من دون انقطاع، وتعهدات بضمان وسلامة الجودة قبل أي شيء، وخلال ذلك يمكن البحث في تحويل مذكرة التفاهم إلى عقد تنفيذي تضمنه الحكومة والجهة المنفذة'.
أما شركة (DP World) الإماراتية التي طرحت استثمارها في ميناء طرطوس فتقدم نفسها كجهة قادرة على إعادته نحو واجهة التجارة العالمية بعد أعوام طويلة من العزلة، ويقتضي العقد الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة للغاية امتيازاً بتشغيل الميناء لـ 30 عاماً في مقابل 800 مليون دولار أميركي، وذلك عبر إعادة تأهيل الأرصفة وتجهيز المرافق الأساس والمناطق الصناعية الحرة ليكون المرفأ نفسه ذا قدرة على لعب دور كبير في إعادة إعمار سوريا.
وعلى رغم ذلك العرض الكبير لاستثمار الميناء إلا أنه سيجعله في المقابل خاضعاً لشروط امتياز طويلة الأمد وسياسات تسعير وتشغيل مرتبطة بالمستثمر، 'مجموعة موانئ دبي العالمية'، مما يعني تقليصاً لدور الدولة في إدارة مينائها الحيوي لمدة زمنية طويلة، وبطبيعة الحال فهذا الاتفاق، بحسب اقتصاديين، لا يعني أنه غير جيد في المرحلة الراهنة أو أن مصيره الفشل، أو أنه سينتهي بخلاف، بقدر ما يعني ضرورة فهم كيفية صياغة الاتفاق نفسه وفهم آليات تمويله وأبعاد ذلك، لما يرتبط به من حساسية تجاه الجانب الروسي الذي كان يسيطر على موانئ ومطارات الساحل خلال الأعوام الـ 10 الماضية.
وفي حين تمثل مشاريع استثمار مطار ومترو دمشق نوعاً من الإعمار الداخلي، واستثمار ميناء طرطوس شكلاً لدعم التجارة الخارجية، فإن اتفاق 'دمشق- أنقرة - باكو' حول توريد الغاز يمثل الجانب الأكثر اهتماماً من الناحية الآنية للمواطنين السوريين، نظراً إلى ارتباطه المباشر بحياتهم اليومية وما يتعلق بها من ساعات وصل الكهرباء، ويبدو في آن أنه المشروع الأكثر جدية والذي بدأ العمل به على الفور، معلناً نفسه كمشروع حيوي يكشف الصورة الحقيقية لمعادلة الاستثمار الجاد ضمن تفاهمات واسعة ومعلنة وصريحة وتنفيذية، ذات آثار وانعكاسات مباشرة.
وفي الوقت ذاته يتخوف مراقبون من الأثر الرجعي العميق مستقبلاً من هذا الاستثمار إذا جرى توظيفه في مرحلة معينة ضمن خدمة أجندات سياسية أو كأوراق ضغط لتحقيق مكاسب ونفوذ أكثر مما كان معلناً في الخانة الاقتصادية وقت التنفيذ، عبر احتكار العقود من قبل قوى إقليمية فاعلة، وفي فلسفة الاستثمار يخشى من أن تصبح إعادة الإعمار ذاتها وسيلة للوصول نحو مكاسب جيوسياسية أمام هذا الاندفاع الإقليمي والدولي المتسارع.
في ظل مشاريع الاستثمار تلك لم يكن ملف الإعمار السكني ببعيد، فقد طرحت مشاريع بمليارات الدولارات تهدف لإقامة مجمعات سكنية جديدة ومدن ذكية بالتزامن مع إعادة إعمار ما تهدم في المدن والضواحي والبلدات، ففي سوريا فاقت نسبة الدمار نصف مساكن البلاد خلال الأعوام الماضية، وبعض الشركات التي دخلت على خط إعادة الإعمار كانت خليجية وتركية وعالمية، إضافة إلى شركات محلية كانت خاملة وعادت للنشاط، مع شركات محلية أخرى تنشط أساساً في إدلب، ولكن المقلق بين كل تلك الجهات التي تداعت لإعادة الإعمار جهتان، الأولى الشركات التي يمثلها رجال أعمال محسوبون على النظام السابق، والثانية شركات استثمارية وهمية لا وجود فعلي لها على الأرض، وقد تمكنت من توقيع مذكرات تفاهم بمبالغ خيالية من دون البحث في خلفياتها.
وفي المحصلة فقد دخلت خلال الأشهر التسعة الماضية عشرات الشركات وكثير من الدول لإبرام مذكرات تفاهم مع السلطة السورية حول مشاريع استثمارية متنوعة قيمتها الإجمالية مرتفعة للغاية، معظمها لم يبدأ تنفيذه على الأرض فعلياً، فيما برزت السعودية من بين الدول كشريك أساس وضامن وموثوق بالملفات التي وعدت بتوليها، بالتزامن مع منحها أخيراً عبر 'الصندوق التنموي السعودي' 1.6 مليون برميل من النفط الخام لسوريا ضمن خططها الملتزمة بدعم الاقتصاد السوري، ومساعدة البلاد لتجاوز محنتها من خلال الدعم السياسي والاقتصادي واللوجستي والانمائي.
ويعبر عن ذلك الاقتصادي ماهر بياع بقوله إن 'السعودية تريد انتشال سوريا لا إغراقها، وتبدو رفقة دول قليلة الأكثر اهتماماً بمستقبل دمشق بعيداً من حصارها بالمال والديون وانتظار تقاسم الكعكة الأخيرة، وعلى رغم أنه من المعلوم أن الدول لا تقدم العطايا مجاناً لكن هذه القاعدة قد تكسر أحياناً في إطار التحالفات بعيدة المدى والتي تجعل الدول تنظر لبعضها بعين الشريك لا الغنيمة'.
ويضيف بياع أن 'علينا اليوم أن نقارب ملف الاستثمارات لنميز بين الحقيقة والوهم، فمجمل ما جرى توقيعه هو مذكرات تفاهم، وبالتالي فهي غير ملزمة لأي طرف، لذا لم نر حتى الآن شروعاً حقيقياً في تنفيذ الاستثمارات الكبرى التي جرى الحديث عنها، وستظل مثار جدل حتى يجري الشروع فيها، وبمعزل عن ملف الغاز الشمالي التركي -الأذري فحتى هذا يحتاج إلى إعادة تقييم لعدم انتظامه، وعلينا أن نعلم ماذا قدمنا من تعهدات وامتيازات أو أموال مقابله، فالاتفاقات المحكومة بالظل تظل مقلقة، ومن حق الشعب والاقتصاديين والحقوقيين الاطلاع عليها، لأن السلطة نفسها بما تمثله من صفتها الاعتبارية والتنفيذية وقعت ضحية عمليات احتيال ممنهج من شركات لا تملك مقاراً أو موظفين أو أعمالاً سابقة، وجاءت لتوقع عقوداً بمليارات الدولارات، خلاف زيارة وزير الاستثمار السعودي الذي جاء مع وفد مكون من 150 شخصاً يمثلون القطاع العام والخاص للبحث في الفرص الاستثمارية في سوريا، وهنا تكمن جدية البحث قبل التنفيذ، ولذلك انبثقت عن تلك الزيارة تفاهمات عميقة وواضحة'.