دمشق حيث ولد الدينار العربي وقُتلت الليرة السورية – بلال سليطين

ولد الدينار العربي في دمشق نهاية القرن السابع معلناً نهوض أقوى اقتصادات العالم حينها. وانهيار الدينار البيزنطي الذي كان آنذاك يشبه الدولار الأميركي اليوم بينما لا تشبه الليرة السورية حالياً الدينار الذي انطلق منها للعالم.

تعيش الليرة السورية اليوم أسوأ أحوالها تاريخياً ومعها الاقتصاد السوري الذي يمر بعصر الانحطاط بعد أن كانت دمشق منشأ الدينار العربي الذي أصبح في بداية القرن الثامن بمثابة العملة العالمية. ويعادل الدولار الأميركي في عصرنا الحالي. لناحية قوته الاقتصادية ودوره في التعاملات التجارية العالمية خصوصاً تلك التي أقيمت بين الدولة الأموية والصين آنذاك. وتجارة طريق الحرير التي سيطرت عليها الدولة الأموية من عاصمتها دمشق.

مع نهاية القرن السابع الميلادي طبع أول دينار عربي خالص في دمشق وقد تضمن صورة فارس عربي من جهة ومن الأخرى آية من القرآن 'قل هو الله أحد'. موقع سناك سوري

مراحل نشوء الدينار العربي الأموي تزامنت مع قلاقل داخل الدولة الأموية وتهديدات من الإمبراطور البيزنطي بردة فعل قوية على هذا الدينار. لكن عبد الملك بن مروان فضّل مواجهة القلاقل الداخلية أولاً، وذهب لمواجهة ابن الزبير في الحجاز وقضى عليه وعلى الخوارج. ونجح بعد ذلك في إرساء دعائم العملة الوطنية آنذاك ما أدى في نهاية الأمر إلى انهيار الدينار البيزنطي والتحول عنه للدينار العربي.

استخدمت دمشق في عهد الدولة الأموية بداية الدينار البيزنطي الذي طبعت عليه صورة هرقل من جهة والصليب من جهة أخرى وكان مصنوعاً من الذهب. وفي مرحلة لاحقة من القرن السادس أدخل عليه الأمويون في التعامل الداخلي آية من القرآن 'ليظهره على الدين كله'.

مع نهاية القرن السابع الميلادي طبع أول دينار عربي خالص في دمشق وقد تضمن صورة فارس عربي من جهة ومن الأخرى آية من القرآن 'قل هو الله أحد'. إذ يعد ذاك الدينار اليوم من أغلى الآثار الذهبية النقدية في المتاحف العالمية.

دأب أهالي سوريا في تلك المرحلة على اكتناز ليراتهم الذهبية في مخابئ متنوعة 'تحت المخدة' تحت 'البلاط' بين 'الجدران'…إلخ من أماكن. وهذا يفسر تكرار العثور على ليرات ذهبية خلال الحفريات في مختلف المناطق السورية. موقع سناك سوري

تطورت أشكال الدينار العربي الأموي وتغيرت كثيراً خلال فترة حكم الأمويين ومن بعدهم العباسيين وصولاً إلى فترة الاحتلال العثماني لسوريا والتي فُرض فيها التعامل بالعملة التركية والتي كانت ورقية أو معدنية.

كثيراً ما نستخدم في سوريا عبارة 'مابيسوى قرش'، والقرش هو وحدة التداول للعملة العثمانية في القرن السابع عشر. وتعد 'البارة' من أجزاء القرش بينما الليرة هي أضعافه.

وخلال فترة الاحتلال العثماني كانت الوحدة الأكثر انتشاراً 'الليرة الذهبية'. يعود ذلك بحسب المراجع التاريخية إلى ثقة التجار بالذهب وعدم ثقتهم بالعملة الورقية التركية.

ودينار المملكة السورية يعد من القطع النادرة أيضاً في الوقت الحاضر، حيث بيعت أحد الدنانير عام 2021 في أميركا بمبلغ 47500 دولار أميركي. موقع سناك سوري

كما دأب أهالي سوريا في تلك المرحلة على اكتناز ليراتهم الذهبية في مخابئ متنوعة 'تحت المخدة' تحت 'البلاط' بين 'الجدران'…إلخ من أماكن. وهذا يفسر تكرار العثور على ليرات ذهبية خلال الحفريات في مختلف المناطق السورية. حيث وجد سكان سوريا في أشد الظروف طرقاً لاكتناز الذهب لحماية اقتصادهم الشخصي عبره.

مع وصول الأمير فيصل إلى دمشق عقب جلاء الاحتلال العثماني عن سوريا. عرفت البلاد مجدداً عملة وطنية سميت آنذاك بالدينار السوري المصنوع من الذهب الخالص وبلغ وزنه 6.451.61 غراماً. ويعادل سعره في ذلك الوقت الليرة الذهبية الفرنسية. وإلى جانبه صكت سوريا ماعرف حينها 'بالريال السوري'.

ودينار المملكة السورية يعد من القطع النادرة أيضاً في الوقت الحاضر، حيث بيعت أحد الدنانير عام 2021 في أميركا بمبلغ 47500 دولار أميركي.

وبحسب المراجع التاريخية فإنه يوجد 6 دنانير معروفة المصير في العالم و4 أخرى مجهولة المصير. وبالتالي فإن كل ما تم رصده من هذا الدينار في عصرنا الحالي لا يتعدي 10 قطع فقط. وربما قصر فترة حكم الملك فيصل لسوريا يبرر سبب قلة عدد القطع المتوفرة من هذا الدينار السوري.

استطاعت العملة الوطنية الحفاظ على وجودها رغم الاحتلال الفرنسي وعملته الخاصة 'الفرنك'، حيث أصدر بنك سوريا ولبنان الكبير النقد السوري الورقي. وكان رصيد هذا النقد من الذهب والسندات. وقدرت قيمة الليرة الذهبية العثمانية (حافظت على قيمتها لأنها من الذهب) بحوالي 250 قرش سوري في عام 1920 إلا أن قيمتها ارتفعت مع القرش السوري إلى الضعف خلال 8 سنوات وأصبحت في عام 1928 تعادل 550 قرش.

إلا أن الانهيار الكبير للعملة السورية جاء بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بسب تحميل فرنسا لسوريا أعباء اقتصادية نتيجة الحرب لتخفيف الضغط عن النقد الفرنسي.

وبحسب وثائق بنك سوريا المركزي فإن سوريا بناء على اتفاقية 1944 تمكنت من تخليص نقدها من تبعية الفرنك الفرنسي وهو نقد ضعيف. ونتيجة خروج سورية من منطقة الفرنك عام 1948 أصبح بإمكانها اتباع سياسة قطع مستقلة أي أصبحت الحكومة السورية وحدها فقط التي تحدد سياسة القطع التي يجب اتباعها، وأصبح لديها سلطة (هي مكتب القطع) ترسم وتنفذ هذه السياسة. وبالمناسبة هذا العام ذاته الذي جرى فيه الفصل الرسمي الكامل بين النقد السوري واللبناني واللذين كانا متوحدين تقريباً رغم وجود ليرة سورية وأخرى لبنانية.

لطالما كانت الليرة السورية ذات قيمة أمام العملات العالمية وحتى في مرحلة ما قبل الاستقلال كانت تعادل قرابة 20 فرنك فرنسي. وتعود قوة الليرة لقوة الاقتصاد وحصة الفرد من الدخل ..إلخ من عوامل ومؤشرات.

وبحسب تقارير للبنك الدولي أحدها صادر عام 1949 فإن قيمة الدولار الذي كان صعد ليصبح عملة التداول العالمي مقابل الليرة السورية كانت تعادل 2.19 ليرة سورية. وأصبح في عام 1963 يعادل 3.18 ليرة سورية. وبالمناسبة العملة بعد الاستقلال وقبله كانت تطبع باسم الجمهورية السورية وفي وقت لاحق أضيف لها العربية في الوسط لتصبح 'الجمهورية العربية السورية'.

في حين حافظت الليرة السورية على استقرارها رغم خوصها حربي 1967 و1973 وتكلفتهما الكبيرة. واستمرت باستقرارها حتى العام 1980 وهو العام الذي تلا بدء تطبيق العقوبات الأميركية على سوريا حيث شهدنا انخفاضاً في قيمتها إلى 12 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي. واستمر انخفاضها مع فترة ماعرف بحصار الثمانينات وأزمة 'الأخوان المسلمين' وما رافقها من مواجهات مسلحة إلى أن استقرت عند 48 ليرة لكل دولار في عام 1990 وبقيت عند هذه الحدود مع صعود وانخفاض نسبي حتى العام 2011.

1949 قيمة الدولار الذي كان صعد ليصبح عملة التداول العالمي مقابل الليرة السورية كانت تعادل 2.19 ليرة سورية. وأصبح في عام 1963 يعادل 3.18 ليرة سورية

في عام 2011 مع اندلاع الأزمة السورية كان سعر صرف الليرة السورية عند 46 ليرة لكل دولار ومنذ ذلك الحين لم تعرف الليرة الاستقرار. واستمرت في رحلة انخفاض قيمتها إلى أن بلغت في عام 2023 بحسب سعر البنك الرمزي 10700 ليرة كل دولار واحد. وهو سعر غير مستقر أيضاً ومتغير باتجاه انخفاض مستمر إلا أنه يمثل أسوأ قيمة لليرة السورية في تاريخها.

لطالما ارتبطت قيمة الليرة السورية تاريخياً بعوامل عديدة أبرزها سياسي. فقد تأثرت قيمتها نسبياً بعد مرحلة تطبيق الاشتراكية وتأميم المعامل والمصانع وانخفضت قيمتها حوالي 50%. وكذلك بعد الحصار الاقتصادي عام 1980 وما تبعه نتيجة الإشكاليات الداخلية والمعارك التي رافقت مرحلة الإخوان المسلمين. وصولاً إلى تأثرها بمرحلة التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي بعد عام 2000 والذي كان محدوداً أيضاً.

إلا أنه بمجيء عام 2011 كانت الانتكاسة الكبرى لليرة السورية. مصحوبة بعقوبات خارجية وأزمة سياسية داخلية ومواجهات مسلحة. وبهكذا تكون العملة المستخدمة في سوريا مرت بمرحلة القيمة العالمية وعملة التبادل التجاري على طريق الحرير وصولاً إلى مرحلة الانهيار الكبير الذي لا يعتمد إيقافه على الاقتصاد بقدر ما هو معتمد على الحلول السياسية.