اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٩ أذار ٢٠٢٥
بعد سقوط نظام الأسد برزت ثلاث شهادات لأبناء بآبائهم؛ شهادة مفلح بأبيه محمود الزعبي رئيس مجلس الوزراء السابق، وشهادة جمال بأبيه عبد الحليم خدام رئيس الجمهورية المؤقت بين فترتي حكم الأسد الأب وابنه المخلوع، وشهادة حيدرة بأبيه ضابط المخابرات 'الكبير' بهجت سليمان الذي شغل عدة مناصب قيادية في تلك الفترتين أيضاً.
تحيلنا هذه الشهادات إلى السيرة الذاتية بين الأدب والدراسة التاريخية، فهل تُقبل هذه الشهادات من الأبناء بحق الآباء؟
أدبيات السير الذاتية
في مقدمة كتابه (الاعترافات) قال جان جاك روسو: “إنني مُقْدم على مشروع لم يَسبِقَهُ مَثيل؛ ولن يكون له نظير؛ إذ أنني أبغي أن أعْرِض على أقراني إنسانا في أصدق صُوَر طبيعته، وهذا الإنسان هو: أنا.. أنا وحدي، فإني أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر! ولست أراني قد خُلقْتُ على شاكّلة غيري ممن رأيت”.
نُشرت هذه الاعترافات بعد وفاته بعامين وقد صدق عندما وصف مشروعه بأنه “لم يَسبِقَهُ مَثيل؛ ولن يكون له نظير”، فقد نقل طقوس الاعترافات الكنسية من نطاق ضيق يجري بين شخصين ثالثهما الخالق عز وجل إلى نطاق جماعي، وقد سن هذه السنة ووضع أصولها، فبدأ النقاد يقيسون السير الذاتية بسيرته فكل سيرة تتجاهل العيوب الشخصية لا تحظى بالمصداقية والاعتراف بها كسيرة ذاتية، فوضعوا الصدق التام مع الذات والبوح الصريح بكل العيوب معيارين يُقيّم بهما العمل الأدبي كسيرة ذاتية.
جاء بعده سارتر في كتاب (سيرتي الذاتية) ليرسخ هذين الشرطين فتحدث عن شغفه بالجنس في مراهقته، ومغامراته مع الخادمات، ثم فصّل في علاقاته مع عشيقاته.
وجاء كتاب (الأيام) لطه حسين، الذي سرده بصيغة الغائب كعمل تأسيسي لأدب السيرة الذاتية في العالم العربي لاستيفائه الشروط الفنية، والتزامه بالشرطين السابقين. فقال في كلمة المؤلف: “هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس، ولعلي لم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد إملائه وإنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعترى الناس بين حين وحين”.
ولعل سهيل إدريس في كتابه (ذكريات الأدب والحب)، قد حقق الشرطين بشكل واضح، فتحدث عن والده، وكشف أنه شاذ جنسيا، يقيم علاقات مثلية مع أحد الفتيان، وأرجع تعدد علاقاته النسائية، لشعوره بالنقص نتيجة قصر قامته.
شهادات أبناء بآبائهم
يشهد جمال عبد الحليم خدام لأبيه بأنه كان نزيها لم يستفد من النظام بطريقة غير شرعية، ولم يسمح له بالاستفادة من منصب أبيه، وأن لقاء والده الأول ببشار تركز على إلحاح عبد الحليم خدام على تطبيق الديمقراطية والحريات العامة، وضرورة التغيير السياسي والاقتصادي في سوريا، وأن والده رفض لقاء رفعت الأسد في فرنسا رغم أن كلاهما معارض، وعلل ذلك بأن أباه معارض لأجل البلد، بينما رفعت معارض من أجل امتيازاته، كما أن والده نصح محمود الزعبي أن لا يتورط بالفساد لكنه لم يسمع النصيحة.
يكرر الدكتور مفلح الزعبي شهادة جمال بأبيه؛ فوالده لم يستغل السلطة بإثراء غير مشروع، وكان يضع مصلحة الدولة فوق كل اعتبار، وكان رهانه على الوطن ومصلحة الدولة، والعلاقة التي تربطه بحافظ الأسد، ويصف عمل والده بضبط الصفقات والأمور المالية للدولة بإعجاب شديد.
حتى المدعو حيدرة بهجت سليمان، صاحب سيمفونية 'ست الكل' ، ابن اللواء بهجت سليمان يشهد أن أباه شخص حسن السيرة والسلوك ومثقف، ونزيه، ويمتلك الشجاعة لانتقاد السياسة الاقتصادية لأسماء الأسد في مقالاته.
هذه شهادات مليئة بالمشاعر 'الصادقة' لأبناء بآبائهم، بصرف النظر عن صدقية الأحداث المروية، فشهادة مفلح الزعبي تحمل كمية كبيرة من الحرقة والألم، ومشاعر الإعجاب والحب للأب المقتول دون محكمة عادلة، كما أن شهادة جمال خدام تطفح بمشاعر حب الأب، لدرجة أن الرجل السبعيني يبدو كطفل عندما يشير لأبيه بلفظ 'البابا'، وتظهر هذه المشاعر بوصفه لمشهد الوفاة، والرغبة بنقل الجثمان إلى بانياس بعد سقوط النظام.
هذه الشهادات جزء من المدونة الصوتية، تندرج تحت إطار المذكرات، ويمكن الرجوع إليها لكتابة أعمال فنية تسرد كل وجهات النظر حول هذه الشخصيات، فالمذكرات تركز على الأحداث الخارجية التي شاهدها وسجلها الراوي بلغة تقريرية صحفية، بينما السيرة الذاتية ذات طابع أدبي.
السيرة الذاتية والفقه
في الفقه الإسلامي ذهب جمهور العلماء إلى أن شهادة الابن بأبيه في القضاء غير مقبولة، حتى لو كان الابن مشهودا له بالصدق والعدالة، وللفقه تأثيره على الوعي الجمعي للناس، الذي ينعكس بالضرورة في الأدب والكتابات الإبداعية، فكما أن جان جاك روسو نقل الاعترافات من عالم الكنيسة إلى عالم الأدب، فمن المفترض أن تنعكس الأحكام الفقهية على الكتابات الأدبية خصوصا إن كان كاتب السيرة الذاتية فقيها مثل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي على سبيل المثال، الذي دون شهادته عن أبيه في كتاب (هذا والدي)، لكن هذه السيرة ضربت بعرض الحائط الشروط الأدبية للسيرة الذاتية، فصور الابن والده المُلا رمضان بصورة أشبه بالكمال الإنساني، وجعله في مصافي الصحابة والأنبياء، وبذلك يخرج هذا الكتاب من مضمار السيرة الذاتية وفق شروط جان جاك رسو المستوحاة من المسيحية، والمتوافقة مع الفقه الإسلامي.
الذاكرة الشفوية وقسوة النقد
بعد سقوط النظام، تجددت الدعوات لتدوين الذاكرة الشفوية لشهادات المعتقلين، ترافق ذلك بتشديد بعض النقاد على الأقلام الجديدة في تدوينها، كما نجدهم يسرفون في فرز وتصنيف الكتابات بين يوميات وترجمات وسير ذاتية، هذا التعصيب يجعل بعض هذه الأقلام تتوقف عن الكتابة، لكن بنظرة أكثر شمولية فإن جميع أنواع الكتابة في هذه المرحلة مهمة، بغض النظر على مستوى الكتابة وصنفها، هذه الكتابات مواد أولية للكتابة الإبداعية في المستقبل.
واليوم نجد أن كتب علم الرجال وكتب التراجم مواد أولية لكتابة أفلام سينمائية، ومسلسلات تلفزيونية وسير ذاتية أدبية لرجالات تلك العصور.