اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٢٩ نيسان ٢٠٢٥
هبطنا في مطار دمشق، وقبل أن تلامس عجلات الطائرة مدرج المطار، لمحت من بعيد علم سوريا الجديد يرتسم على مبنى المطار؛ هنا أيقنت أن سوريا طوت صفحة 'البعث' إلى الأبد، وكان مطار دمشق هو آخر مطار سوري استخدمته حينما طرت منه العام 2012 إلى غير عودة.
كانت ليلة من أطول ليالي الانتظار، تسمّرت أمام الشاشات أتابع وسائل التواصل الاجتماعي يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، اليوم السابق للسقوط المدوّي لنظام الرئيس السوري بشّار الأسد، وسقوط 'البعث' وكلّ الرموز التي أجبرونا على الإيمان بها، وكذلك الشعارات التي ردّدناها في مدارس البعث منذ تسعينات القرن الماضي.
أتحدّث مع الزملاء في 'سراج' وزملاء صحافيين في تركيا ولبنان والأردن وكذلك داخل سوريا، والكلّ يترقّب ما التالي؟
لا أزال أذكر كيف كنّا نردّد في مدرستي في ريف إدلب شمال البلاد شعار: 'حافظ أسد رمز الثورة العربية'، كلّ صباح في طابور المدرسة، وخلال تحيّة العلم، ومن ثم نُسخ هذا الشعار ليُردّد بصيغة أخرى في عهد وريث حُكم عائلة الأسد، لتمجيد بشّار منذ مطلع الألفينيات. اليوم، هل ستصبح هذه الذكرى من التاريخ ولن يردّدها أطفال سوريا لتمجيد الأسد الابن؟
نعم، نعم، تحقّق هذا. يوم 8 كانون الأول أصبح الأسد بالنسبة إلي من الماضي، الماضي الذي لا أستطيع إلا أن أتذكّره حيث الديكتاتورية والتوحّش يعلوان فوق أيّ اعتبارات. كانت ليلة طويلة ماراتونية وحماسية بكلّ المقاييس. هرب بشّار الأسد وانهار نظامه الوحشي وبقيت سوريا.
وما إن انهار النظام حتى انتشرت الوثائق الخاصّة بالمخابرات السورية في 'كلّ مكان'، بينها اسمي داخل فرع أمن الدولة السرّي في دمشق، ملاحقاً ومطلوباً إلقاء القبض عليّ، ومعي زملائي مؤسّسو 'سراج' وفريقه الكامل.
كنت أتخيّل وأنا أقرأ بالأبيض والأسود و'البولد' العريض، الأوراق الممهورة بأختام 'المخابرات العامّة' وأسماء الجلّادين وأعوانهم، كيف تصفني مخابرات النظام؟ وتصف المؤسّسة التي أسّستها مع زملاء تجمعنا رؤية واحدة برؤية سوريا بلداً حراً.
أسأل نفسي، لو لم يسقط النظام وكانوا (المخابرات السرّية) يلاحقوننا سراً كيف سنعرف؟ ماذا سيفعلون بنا لو أمسكوا بنا؟ نحن الذين نغطّي ونكتب عنهم ونحاول أن نُحبط جهودهم في الاستقواء على الناس، وتمكين رجال الأعمال والشبّيحة وتجّار المخدّرات من الاستقواء بالنظام والالتفاف على العقوبات الدولية، بالتأكيد النتيجة معروفة، وقد خبرها ملايين السوريين، ودفعوا مقابلها من عذاباتهم ومن دمائهم الكثير في سجون فرع فلسطين، والأمن العسكري وصيدنايا والجوّية وغيرها.
ما إن سقط النظام حتى أصبح التفكير بالسفر إلى دمشق، ولقاء الأهل والأقارب بعد 12 عاماً من الهجرة القسرية في بلدان اللجوء، حلماً قابلاً للتحقيق فعلاً، حلماً يتحقّق الآن في اليقظة. طيلة العقد الماضي من عمرنا ومع وجود النظام السوري واستمراره، كان الحديث عن سوريا والعودة إليها مجرّد ترف، أو نكتة بالنسبة إلينا، لأن النظام باقٍ، ومن المستحيل أن يقبل عودة أي لاجئ سوري، حتى وإن لم يكن لديه أي مشكلات أمنية، أو لم يكن منضوياً في صفوف المعارضة، أو له أي نشاط ضدّ النظام في الفضاء العامّ.
لكنّ كلّ هذا صار من الماضي يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، فكان القرار الحاسم بالنسبة إلي بالسفر إلى سوريا.
لقاء الأهل والأقارب ومن تبقّى من الأصدقاء بعد هذا الانقطاع القسري في بداية شباط/ فبراير الماضي، لم يكن إلا مجرّد فكرة كانت تخطر في بالي، ربما تتحقّق وربما لا. كصحافي يعمل من المنفى؛ ونادراً ما تتحقّق أحلام الصحافيين والناشطين والمعارضين، الذين يعملون في بلدان اللجوء، ويتمكنون بالنهاية من العودة إلى بلدهم الأصلي، يحدث هذا فقط إذا سقط النظام الديكتاتوري الذي يطاردهم، وهو ما حصل في سوريا بالظبط.
تتّصل بي زميلة صحافية استقصائية من بلد يحكمه نظام دكتاتوري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مهنّئة وتتمنّى أن يحدث ما حصل في سوريا في بلدها، هي التي لا تعرف بلدها منذ أكثر من عشرين عاماً.
الطريق إلى دمشق
أقلعت بنا الطائرة من باريس إلى عمّان في الليل، ومن ثم إلى دمشق، ستسطع علينا شمس دمشق للمرة الأولى بشعور مختلف. مجموعة من الشباب السوريين نتقابل في المطارات، وكأننا وُلدنا من جديد، من درعا وإدلب وحمص وحلب… الوجهة دمشق.
13 عاماً مرّت كأنها دهر… أو لحظة ربما. حين تطأ قدماك أرض دمشق بعد كلّ هذا الغياب، لا تعرف إن كنت تزورها للمرّة الأولى، أم تعود إلى بلاد لم يتركك يوماً مصيرها وواقعها ويومياتها؟
في الغربة، كانت سوريا بكلّ مدنها وقراها التي تئن تحت وطأة الديكتاتورية طيفاً في الحلم، أغنية في البال، وصورة محفوظة في ذاكرة شاب هرب من الديكتاتور وذاكرته لم تشِخ. هناك دهشة اللقاء، وواقع التغيير، والواقع المؤلم بعدما دمّر النظام البلد.
العودة ليست مجرّد رحلة طيران، بل هي اختبار لذاكرتي، هل تغيّرت دمشق أم أنها بقيت كما تركتها؟ أم أنا الذي تغيّر؟ سنرى.
معنا في الطائرة مواطنون سوريون من مختلف أنحاء العالم، لكلّ واحد منهم قصّة، وكلّ واحد يريد أن يبوح، يريد أن يصرخ ويعبّر عن فرحه، يريد أن يبكي. كلنا بكينا من دون سبب، يكفي فقط أن تشعر أنك تهبط في مطار دمشق للمرّة الأولى لتذرف الدموع.
جلس بجانبي رجل ينحدر من حلب، قال لي إنه لم يزر سوريا منذ 13 عاماً، بعدما وصل إلى أوروبا (هولندا) من تركيا عبر اليونان، وطلب مني أن ألتقط له صوراً وفيديو لدى وصولنا إلى المطار، لأنه يريد أن يسجد لله فرحاً وشكراً بالعودة إلى سوريا وإلى حلب.
هبطنا في مطار دمشق، وقبل أن تلامس عجلات الطائرة مدرج المطار، لمحت من بعيد علم سوريا الجديد يرتسم على مبنى المطار؛ هنا أيقنت أن سوريا طوت صفحة 'البعث' إلى الأبد، وكان مطار دمشق هو آخر مطار سوري استخدمته حينما طرت منه العام 2012 إلى غير عودة.
علم سوريا الجديد – علم الثورة في كلّ مكان، إنه أكبر تعبير رمزي ودلالي على التغيير.
سوريا الأسد انتهت، ودخلنا في مرحلة جديدة من عمر الدولة الجديدة، سوريا ما بعد حُكم عائلة بيت الأسد.
داخل المطار تبدّلت الوجوه، لم يعد هناك من كان يصطلح السوريون على تسميته 'أبو حيدر جوّية'، في إشارة إلى ضبّاط المخابرات السورية السابقة. تبدّلت الوجوه والملابس، وبات رجال الأمن في المطار والموظّفون ببدلات جديدة مختلفة.
من مطار دمشق الدولي حتى وسط العاصمة دمشق وعلى الطريق، تظهر بوضوح 'تركات' جيش الأسد ومخابراته، غرف صغيرة بُنيت على عجل تقطع الطريق السريع إلى نصفين، أنشأت فيها جهات أمنية وعسكرية مختلفة حواجز تفتيش، مهمّتها تفتيش السيارات والمارّة في الذهاب والإياب.
هنا حاجز للمخابرات الجوّية، وبعده بنحو مئتي متر حاجز أكبر للفرقة الرابعة سيّئة الصيت، يليهما بأمتار قليلة حاجز للأمن العسكري تعلوه صورة ممزّقة لبشّار الأسد وهكذا. فرّ الجنود ورجال الأمن في عتمة ليلة السقوط، وتركوا غرف الحراسة فارغة.
قال لي سائق التاكسي: 'كان رجال الأمن والعساكر الذين يخدمون على هذه الحواجز، يسألون كلّ مسافر ننقله إلى دمشق وبالعكس: شو جايبلنا معك؟'، هذا أكثر شيء يهمّهم، لم يكونوا يُجرون التفتيش بمعنى أنهم يريدون ضبط الأمور أمنياً، لا إطلاقاً، كان هدفهم جمع أكبر قدر ممكن من المال، وسرقة مقتنيات المواطنين وأموالهم.
قال لي أيضاً إنه في إحدى المرّات وعلى حاجز للفرقة الرابعة، سأله العسكري معك ألفينات صحيحة؟ (الألفينة قطعة نقدية من فئة 2000 ليرة) قال له نعم، فطلب منه العسكري أن يبادله ما لديه من هذه القطع النقدية، بقطع أخرى لدى العسكري من فئة 200 ليرة سورية، كان قد جمعها على مدار أسبوع من الركّاب المغادرين من سوريا والقادمين إليها، فاستخدمه لتصريف هذه الكميات من الأموال، التي لم يعد لها قيمة كبيرة بسبب التضخّم وتراجع سعر الصرف.
أن تحيا في دمشق… الآن!
يوم جديد في دمشق هذه المرّة لمعرفة كيف يعيش الناس؟ ماذا يحصل؟ جدول الزيارات مزدحم إلى أين الوجهة؟ سوق الحميدية؟ سجن صيدنايا؟ جوبر والقابون؟ جبل قاسيون؟ تشعر أنك مشتت وتريد المزيد من الوجهات، لكن عليك أن تختار حيث تشعر أنك غريب عاد للتوّ إلى بلده، أو سائح يريد اكتشاف مكان طالما حلم بالذهاب إليه.
أمام القصر العدلي في دمشق، تتطاير صور بشّار الأسد الممزّقة، وعلى واجهة المبنى صورة كبيرة له شُطرت إلى نصفين، اقتربت لألتقط صورة، أوقفتني امرأة في الستينيات من عمرها، وقالت لي: 'لو كان الجحش لسه موجود كان فيك تصور هيك صورة؟'، ابتسمت وقلت بالتأكيد لا.
كان الكلّ يعلم حجم إجرام النظام السوري، ومدى قدرته على التجسّس على تحرّكات المواطنين وتقييد حرّياتهم، حتى بالنسبة إلى أي نشاط طبيعي، ولو كان صورة عابرة في مكان عامّ، فأنت عُرضة لسؤال الجواسيس المنتشرين في الشوارع: لماذا تصوّر؟ من أنت؟ أعطنا هوّيتك؟
بالقرب من القصر العدلي وبالتحديد في ساحة المرجة التاريخية، وُضعت جداريات بلّورية عُلّقت عليها صور (بورتريهات) المفقودين، الذين اختفوا في سجون النظام السوري.
أمّهات، آباء، وحتى أطفال يقفون أمام هذه الجداريات وحولها، يحدّقون بصور ذويهم علّ أحد المارّة يتعرّف عليهم ويخبرهم عنهم. تحدّثت إلى يافعين كانوا يريدون أن يسمعوا أي خبر عن والدهم المفقود منذ العام 2018. اقتربت مني امرأة عجوز وبدأت تبكي، وتقول: 'لا أعلم عن ابني شيئاً منذ العام 2013. حيث اعتقلته دورية لقوّات النظام من منطقة الميدان في دمشق، واختفى منذ ذلك الحين'.
يأمل هؤلاء المكلومون ومعهم ملايين السوريين بتحقيق العدالة، ولا يتحقّق هذا الأمر بحسب الكثير منهم، إلا بجلب المجرمين والقتلة إلى القضاء العادل. لعلّ هذا المطلب هو الخيار الأبرز بالنسبة إلى سوريا الجديدة، التي تريد أن تسلك مساراً جديداً يحقّق السلم الأهلي عبر العدالة الانتقالية. نسيان أولادهم وأحبائهم في السجون وتجاهل مصيرهم، لن يكون الخيار الأنسب بالنسبة إلى الحكومة الجديدة، هم يعوّلون على المحاسبة والعدالة الانتقالية، ويريدون كشف مصير مفقوديهم.
كنّا نسير باتّجاه سوق الحميدية؛ المعلم الدمشقي الأبرز، زحمة الزوّار والمشاة والباعة الجوّالين داخل السوق وعلى جنبات الطريق تُشعرك بالتغيير، يصرخ رجل: 'صرّاف، صرّاف'، وهي خدمة بات يقدّمها صرّافون جوّالون بعدما كانت ممنوعة في عهد النظام السابق، إذ كان يكفي أن يكون معك مئة دولار في جيبك حتى يتمّ القبض عليك، لتأخذ حُكماً بسبع سنوات سجن بتهمة الاتجار بعملة غير العملة السورية، لكن الآن أصبح بإمكانك تصريف العملات التالية: الدولار، اليورو، الليرة التركية، والمنافسة بين الباعة والصرّافين على أشدّها.
حركة البيع والشراء تمضي نحو الأفضل وإن كانت لا تزال بطيئة، فهناك معوّقات كثيرة لا تزال تُعيق العمل التجاري كتقنين الكهرباء وقلّة الموادّ الأوّلية اللازمة للصناعة بخاصّة المستورد منها وعدم توافر العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار، وهذا ما شرحه لنا بالتفصيل أحد تجّار سوق الحميدية الكبار، واصفاً الفترة الماضية بالجحيم، حيث كانت تتسلّط قوّات الفرقة الرابعة عبر المكتب الاقتصادي، على مداخيل المحالّ التجارية وتفرض على أصحابها إتاوات، كما أنها تستقطع جزءاً من مدخّراتهم وأرباحهم، وهذا ما جعل بيئة العمل طاردة لكثير من الصناعيين والتجّار الذين آثروا إغلاق محالّهم أو بيعها، وعدم مزاولة أي مهنة.
سوريا الأسد: مسرح جريمة
'سوريا الأسد' أو 'سوريا البعث' كانت عبارة عن مسرح جريمة كبرى، تخرج من فرع أمني بعد أن تُنهي زيارتك، لتتعرّف وتتقصّى حال المعتقلين والمساجين هناك بعد التحرير، لتسمع خبراً ورد عن اكتشاف مقبرة جماعية في مكان ما في الأرياف، ثم يُخبرك أحدهم عن اكتشاف برّاد جثث في مستشفى ما، لمعتقلين كانوا قد قضوا شنقاً أو تحت التعذيب، لينتهي الحديث عن سجن صيدنايا أو فرع فلسطين والفظائع التي دارت في أقبيتهما.
لماذا كُتب على السوريين أن يُقاسوا كلّ هذا العذاب من نظام بشّار الأسد؟ سؤال طرحته خلال بحثي عن إجابات، وأنا متوجّه لزيارة سجن صيدنايا؛ المسلخ البشري الشهير.
من دمشق حيث تتبعثر سيّارات الشرطة والجيش المحطّمة والمحروقة إلى منطقة صيدنايا، تصعد بنا السيارة في الطريق الوعرة بين الجبال الجرداء عبر مدن التل ومنين شمال غرب دمشق، وتشعر وكأن هناك قمّة ستصل إليها في نهاية الطريق، وتسأل: ما هي هذه القمّة؟ وماذا يوجد فيها؟ هي قمّة جبل يتموضع فوقها أكثر الأماكن بشاعة في العالم، وصمة عار في تاريخ البشرية، سجن صيدنايا.
تُحيط بك الجبال الجرداء من كلّ الجهات، تكسوها الثلوج المتبقّية على القمم من أشهر الشتاء وليالي كانون القارسة، تسأل نفسك لماذا قرّر حافظ الأسد والد بشّار بناء سجن في أكثر مناطق سوريا برداً؟ ولماذا قرّر أيضاً بناء سجن آخر في أكثر مناطقها حراً، وهو سجن تدمر وسط الصحراء القاحلة؟ ماذا كان يريد أن يشعر السجناء في هذين المكانين؟ ما هي الرسالة التي يريد نظامه إرسالها؟ لماذا كلّ هذه الوحشية؟.
داخل باحات سجن صيدنايا، تفقد الكلمات والحروف معانيها، لا يوجد كلمات تصف هول ما تراه، داخل الأروقة والزنازين الانفرادية والمهاجع الجماعية، كلّ شيء يحكي حكايته الخاصّة، الأبواب الحديدية الثقيلة، وأصوات الأقفال الفولاذية والأدراج التي تتّجه كلّها نحو الأسفل، تحت الأرض. لطالما عُرف النظام السوري تاريخياً بأنه يُخفي معتقليه فلا يرون الشمس مجدداً، هنا عرفت المعنى الحرفي لهذه العبارة.
الظلام الدامس، لا يوجد ضوء تحت الأرض، القذارة والمياه والرائحة الكريهة وخيوط العنكبوت في كلّ مكان. من يصدّق أن في هذا المكان كان يوجد أناس سوريون مثلنا من لحم ودم، وكانوا يتنفّسون ويأكلون ويشربون مثلنا تماماً، ووقعوا فريسة بيد سجّانين وضبّاط ضمن دائره قتل لا تتوقّف يقودها بشّار الأسد؟
تخرج من بهو غرفة الإعدام، حيث البدلات البرتقالية اللون ملقاة على الأرض في كلّ مكان، تسير باتّجاه مستودعات البطّانيات والألبسة العسكرية وأحذية الجنود وحرس السجن، هناك كتابات على الجدران تركها الجنود تمجيداً لبشّار الأسد وحُكمه، وتعبيراً عن ولائهم لنظامه. حبال الإعدام الحمراء والمشانق المعلّقة والمرمية لا تزال في المكان، تسأل من هو يا ترى آخر سوري قبل تحرير السجناء وفرار السجانين تمّ إعدامه في هذه العتمة وبهذه الوحشية، وارتدى هذه البدلة البرتقالية؟ يقودك السؤال مرة أخرى إلى التفكير بحجم إجرام السجّانين لماذا كانوا يفعلون ذلك؟ هل إجابة مثل إننا كنّا مأمورين كافية؟ لا أعلم.
الأسلاك الشائكة في كلّ مكان، وحقول الألغام تحيط بك وبالسجن من كلّ الاتّجاهات، في باحة السجن الرئيسية جرى مدّ حبال شائكة وفي البهو أعلى السقف، حتى العصفور إذا هبط على الأرض، سيكون من الصعب عليه الفرار نحو السماء بسبب الأسلاك، يا الله ما هذا المكان وماهذه القسوة.
جدران السجن من الخارج طُليت باللون الأصفر (البيج) وهو لون الطلاء نفسه الذي طُليت به جدران مدارسنا الابتدائية والإعدادية والثانوية، ما هذه المصادفة؟ هل كان يُراد وضعنا في معسكرات تشبه السجون؟ كلّ شي هنا يذكّرك بالقمع والترهيب والتخويف، قال لي زميل: 'صرت أكره اللون الأصفر'.
هل توقّف التاريخ في دمشق؟
وأنت في سوريا للمرة الأولى منذ 13 عاماً، يجب أن تفرح، وفي الوقت نفسه ينتابك شعور هائل بالحزن والغضب، كلّ شي هنا قديم وكأن عجلة التاريخ توقّفت، أو كأنك ركبت آلة الزمن وسافرت، لم يبذل النظام السابق أية جهود في تحسين حياة الناس ولا تطوير الخدمات العامة، جلّ المداخيل وفّرها للإنفاق العسكري، ولكي تبقى جنازير الدبّابات تدور وتطحن القرى والمدن السورية، لكنّ شعور الناس والفرح بالتغيير فوق الوصف، مع إبداء قلق نسبي من المرحلة المقبلة.
الحكّام الجدد غير معروفين ونهجهم غير واضح، إلى أين ستسير البلاد؟ لا أحد يعرف، يتجّمع المواطنون أمام صرّافات آلية تابعة للبنوك الحكومية والخاصّة لاستلام رواتبهم، وسط انقطاع متواتر في الخدمات لأسباب تقنّية ولوجستية.
سألت بائع يتجوّل في دمشق كيف ترى الأمور؟ قال لي: 'للأسف البلد رايحة للخراب'، سألته لماذا؟ قال لي: 'علمنا أنهم سيمنعون العمل على البسطات، ستصبح ممنوعة'. سألت بائع دخان وعصير يعمل على دراجة متنقّلة كيف ترى الأمور؟ قال لي: 'مهما حصل في المستقبل سيكون أقل سوءاً من عهد بشّار الأسد'، وهذا يعني أنه لا يمكنك الحصول على إجابة محدّدة تشرح لك ماذا سيحصل في المستقبل، فكلّ واحد يرى المستقبل من وجهة نظره، وما سيؤثر على عمله، أو مستقبله الشخصي.
الحديث نفسه عن الواقع والمستقبل شرحه لي سائق تاكسي نقلنا أنا ومجموعة زملاء من شارع الثورة إلى دار الأوبرا لحضور فعّالية لأحد الزملاء، واختصره بأنه يرى أن 'البلد راحت'، كنت أريد أن أسأله لماذا، لكن وصولنا بسرعة إلى وجهتنا واضطرارنا للترجّل على الفور كي لا نتسبّب بعرقلة السير، منعناني من إكمال الحديث معه.
يوم آخر جديد مشمس في دمشق، أقطع الطريق من دوّار السبع بحرات باتّجاه ساحة المحافظة عبر شارع 29 أيّار، بعدما سمعت هتافات وضجيجاً وأنا في بهو الفندق.
أمامي تظاهرة لعشرات السوريين (نساء ورجال واطفال) يطالبون بإعادتهم إلى وظائفهم في القطاع العامّ، بعدما أُجبروا على ترك مناصبهم كجزء من موجة التسريح، أو ضبط العمالة التي انتهجتها الحكومة الانتقالية السابقة، يريدون ببساطة العودة إلى أعمالهم، ويرفعون لافتات تُطالب بذلك. كانت قوّات الأمن تضرب طوقاً حول المظاهرة وتمنع السيارات من الاقتراب من التجمع.
مشهد لم أعهده من قبل، أن يحمي رجال الأمن حراكاً مطلبياً أو مظاهرة ضدّ الحكومة. اعتدنا على رجال أمن يُمطرون التظاهرات بالرصاص ويقتلون المتظاهرين، ومن يتمّ اعتقاله يغيب في السجون. اقتربت من الحشد وتحدّثت إلى إحدى المتظاهرات وهي موظّفة في مؤسّسة حكومية، كانت تُطالب بلسان الموظّفين بالعودة إلى الوظيفة، لأنه لا يوجد بديل أو مدخول آخر لها ولعائلتها.
لا تزال مكتبات وسط دمشق الشهيرة تعمل، وتعرض الكتب والمطبوعات، وإن كانت سوق الطباعة ما زالت تعاني الأمرّين، بسبب القيود التي فرضها عهد الرقابة المخابراتية السورية، أبرز العناوين الموجودة هي لكتب قديمة، لم تحصل على إذن الموافقة بالبيع والتداول من الرقيب الأمني في المخابرات السورية في النظام السابق، أما المطاعم والمقاهي فهي تعمل لساعات متأخرة من الليل، وحركة الإقبال عليها متفاوتة بين منطقة وأخرى.
في سوق البحصة الشهير وسط دمشق، لا تزال المحلّات تبيع الأقراص بصيغة CD او DVD، ولا تزال توفّر خدمات تنزيل ألعاب وبرامج وتطبيقات العمل المكتبي، من المتعارف عليه بين السوريين أن سوق البحصة الإلكتروني هو النسخة السورية من 'وادي السيليكون'، بالقرب منه، يقع سوق الهال، حيث تتموضع البسطات التي تبيع الخضار والفواكه، كلّ شي تقريباً متوفّر هنا، وهناك انخفاض نسبي في أسعار السلع، مثل التمور والموز ويشمل هذا الانخفاض الفواكه المستوردة أيضاً. قال لي أحد الباعة إن سقوط النظام حفّزه على استيراد المزيد من الفواكه الاستوائية، لأنه قبل السقوط كان عليه أن يدفع للفرقة الرابعة إتاوات حتى يسمح له عناصرها باستيراد هذه الفواكه ونقلها، بخاصة على الطرقات السريعة حيث تنشر حواجزها.
بسطة لبيع أقراص ليزرية CD و DVD في سوق البحصة – دمشق. حصري
من الشاشة إلى التراب
عملي سابقاً على بعض التحقيقات الاستقصائية، باستخدام المصادر المفتوحة OSINT بحُكم العمل خارج سوريا، ولّد عندي شعوراً وشغفاً حقيقيين لزيارة الكثير من المناطق، التي عملت عليها، بخاصة مناطق مثل حي القابون وجوبر ومشروع ماروتا سيتي في قلب دمشق.
شعور رائع جداً أن تطأ قدماك مكاناً لطالما كنت تراه في صور الأقمار الصناعية لتعذّر الوصول البشري إليه، بسبب قوّات النظام السوري، التي كانت تضرب طوقاً أمنياً شديداً حول هذه المناطق، وتعتبرها مغلقة وممنوع الدخول إليها، مثل حي القابون الذي مُسح بالكامل عن الخريطة، كما قاربت مستويات الدمار في جوبر والغوطة الشرقية حدوداً مخيفة، يصعب معها التكهّن أو التفكير بشكل إعمارها مستقبلاً.
ما أثبتّه في التحقيقات عبر المصادر المفتوحة والأقمار الصناعية وغيرها من الأدوات، وجدته صحيحاً أمامي ورأيته بأمّ العين، كمستويات الدمار ومقارنتها بالأعوام التي أعقبت سيطرة النظام وانتزاع هذه الأحياء من قوّات المعارضة بعد العام 2018، حيث تمّ تفجير هذه البيوت بداعي الانتقام ومنح الأراضي والعقارات لصالح شركات ورجال أعمال مقربين من النظام السوري.
مصير حلفاء الأسد
بجولة سريعة سيراً على القدمين، يمكنك أن ترى حال حلفاء النظام السوري السابق من خلال أصولهم السياسية في دمشق، المركز الثقافي الروسي – روسيا حليف بشّار الأسد التاريخي ضدّ الشعب السوري – وسط شارع ٢٩ أيّار مغلق بالكامل، ومحاط بأسوار معدنية وحواجز إسمنتية، تدلّ على أن حقبة روسيا في سوريا انتهت.
تنتشر في الشوارع باصات نقل عامّ مكتوب عليها منحة مساعدات من الشعب الصيني. اعتمد النظام السوري ولغاية ساعاته الأخيرة، على المساعدات المالية والعسكرية من حلفائه التقليديين مثل روسيا وإيران، والصين بدرجة متفاوتة، التي قدّمت مساعدات إغاثية مالية وطبية، وأخرى في مجال النقل مثل: الباصات الخضراء التي لا تزال تعمل وسط مدينة دمشق، مساعدات إنقاذ من الزلزال الذي وقع في شباط/ فبراير 2023.
المستشارية الثقافية الإيرانية في ساحة المرجة مغلقة، وأمامها ستار حديدي يحجب الرؤية. كتب أحدهم على الجدار من الجهة الخارجية بالإنكليزية Assad Gone … Khameni Loading. إنها رسالة عميقة موجّهة إلى إيران من الثوّار السوريين الذين أسقطوا نظام بشّار الأسد، قال لي أحدهم وهو يقرأ العبارة ويهزّ برأسه إعجاباً.
دمشق التي عدتُ إليها؛ كذلك سوريا، ليست تلك التي غادرتها. شوارع تغيّرت، وجوه غابت، وأخرى وُلدت من رحم المعاناة. لكنّ حدثاً لا يمكن تجاوزه حصل، وفكرة لا تغادرني، وكأن صوتاً في رأسي يقول بإصرار: 'مبروك أنت هنا، في البيت'.
العودة ليست نهاية الرحلة وختام الحكاية، بل بداية جديدة، بداية إعادة إعمار سوريا الجديدة، التي لطالما حلمنا بها.