اخبار سوريا
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٣ أذار ٢٠٢٥
القيادة الجديدة تنجح في إدارة ملفاتها الخارجية وتغرق في مستنقع المشكلات الداخلية
شهدت الأيام القليلة الماضية تصعيداً غير مسبوق في مواجهة الأقليات السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتمثل هذا التصعيد في عمليات انتهاكات واسعة من قتل واعتقال تعسفي واعتداء على المواطنين في مناطق محددة رافقها غضب شعبي وحال من الغليان لعدم تمكن السلطة الجديدة من تدارك تلك المواقف بالسرعة المطلوبة على أرض الواقع.
قد لا تتحمل القيادة الجديدة المسؤولية كاملة عن مجريات الانتهاكات التي حصلت وطاولت أكثر من مكون في أكثر من حدثٍ بعضها كان دموياً وآخر يحمل انتهاكات وتعديات، ولكن لا شك أنه يؤخذ عليها بطء التصرف في أحيان، والتغاضي في أحيان أخرى، والتعامل بعين واحدة في مواقف عدة.
والأهم هو عدم قدرتها على ضبط حال من الأمن الجماعي الشامل في المناطق التي تبسط سيطرتها عليها، والتي تعاني استفزازات بالجملة تتطور يوماً بعد آخر كما أوضحت الأيام الماضية.
وفي أحيان أخرى تكون نفسها شريكة في الأمر الحاصل وإن لم يكن بصورة مباشرة بل عبر ما يمكن تسميته عناصر متفلتة تستسهل استخدام السلاح وقتل المدنيين ولو كان الأمر ناجماً عن تلاسن في الكلام لا يرقى ليكون الطرفان فيه مسلحين، فيغدو أحدهما قتيلاً والآخر قاتلاً.
حادثة المهاجرين
قبل أيام دخلت سيارة مجهولة الهوية يركبها مسلحون ملثمون حي المهاجرين شرق مدينة حمص محاولين الاعتداء على الناس وسرقة المحال التجارية وسط حال من الفوضى التي عمت الحي، فيما بادر السكان بالاتصال بالأمن العام في المدينة ليرسل بدوره دوريات معززة إلى المنطقة للوقوف على حال الشكوى التي أرعبت الناس، ومع وصول الأمن العام احتمى الملثمون ببناء مكون من أربعة طوابق فما كان من الأمن العام إلا تطويقه وإجراء حملة دهم شاملة داخله وفي جواره، معتقلاً زهاء 20 شاباً لجهلهم الهدف المطلوب.
تلك الحملة التي جاءت قرابة منتصف الليل أثارت حالاً من الرعب والخوف والقلق لدى الأهالي لما رافقها من إطلاق نار كثيف في الجو وقرع أبواب بطريقة مخيفة واعتقال شبان من الحي، ليطلق السكان مناشدات بالجملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي معبرين فيها عن ذعرهم وجهلهم بما يجري، كما قال هائل الحمد أحد سكان الحي في حديث إلى 'اندبندنت عربية'.
بعد قرابة ساعة إلى ساعتين أعاد الأمن العام الشباب المعتقلين سابقاً إلى منازلهم معتذراً للأهالي عن سوء التفاهم بحضور وجهاء من المنطقة وقيادات محلية، مبيناً أن الحدث كان يسترعي التصرف بهذه الطريقة بحثاً عن المجرمين الذين لم يعرف مصيرهم حتى الآن، إذ لم تعلن وزارة الداخلية عن توقيفهم في تلك الليلة العظيمة التي عاشها الحي.
ويوضح ذلك تعسفاً في الإجراءات ونقص خبرات في التعامل مع الملفات الأمنية حتى البسيطة منها، على رغم استمرار تخريج وزارة الداخلية دفعات من الجنود في أزمنة قياسية يشك من خلالها في مدى كفاءتهم وعلو كعبهم في العمل الأمني قياساً بالمدة التي خضعوا فيها للدورة.
في اليوم التالي قرر الأمن العام تكثيف نشر جنوده في حي المهاجرين من دون الإعلان عن السبب، وهو حي كان يتسم بصفة الولاء المطلق للحكم السابق قبل سقوطه، ويقول أحد السكان هناك 'جميعنا مشكوك بنا حتى يثبت العكس، ولا ندري كيف نثبت العكس ونحن أساساً شركاء في إسقاط النظام الذي جوعنا وأهاننا وحسبنا عليه زوراً وبهتاناً؟'.
القرداحة
في اليوم ذاته شهدت مدينة القرداحة في ريف اللاذقية وهي مسقط رأس الأسد يوماً دموياً إثر محاولة عناصر مستجدين من الأمن العام السيطرة على منزل أحد الساكنين بقوة السلاح، وإثر تلاسن كلامي بين الطرفين أسفر عن إطلاق نار أسفر عن مقتل صاحب المنزل وشخص آخر، لينسحب عناصر الأمن الذين كانوا قلة نحو مخفر المدينة الذي يسيطرون عليه.
وأكدت مصادر مستقلة أن تلك العناصر لم يكن لديهم أوامر بتملك المنزل وتحويله لنقطة عسكرية لهم، وعلى أثر الحادثة تجمهر أهل المدينة مطوقين المخفر ومهاجمين إياه مع الإقدام على تحطيم سيارات الأمن العام الموجودة في محيطه، وسط هتافات طائفية مما تفاعل سريعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تتسيد منذ غياب القنوات الرسمية الموثوقة مصدر الخبر، متهمة المحتجين بأنهم فلول نظام يطلقون شعارات طائفية تنال من طائفة أخرى بعينها، وهو ما لم يتضح بأي من الفيديوهات المتداولة.
عناصر المخفر المحاطون بالمتظاهرين تواصلوا سريعاً مع الأمن العام في اللاذقية وجبلة اللذين أرسلا قوات عسكرية مدججة بالسلاح والعدد ليتمكنوا من فك الحصار عن المخفر عبر إطلاق مكثف للنيران في سماء المنطقة، لتنتهي الليلة باجتماع بين وجهاء المنطقة وقيادة العمليات هناك والاتفاق على الصلح وتقليل عدد الحواجز في المنطقة.
عين شمس
في الأثناء كانت تتهيب قوة كبيرة من الأمن العام لاقتحام قرية عين شمس في ريف حماة وسط سوريا بحثاً عن فلول النظام، ضمن حملة عسكرية كبيرة أفضت إلى مقتل واعتقال نحو 68 شخصاً بينهم مختار القرية وفرانها الذي يبلغ من العمر 80 سنة وشبان دون الـ18 سنة، وأيضاً وسط أجواء محتدمة من إطلاق النار العشوائي.
هذه المرة استعانت القوات المهاجمة بإحدى الفضائيات لتغطية عملية دخولها إلى القرية، لكن أياً من الفيديوهات التي بُثت لم تثبت عمليات تبادل إطلاق نار بين طرفين، على ما يؤكده سكان القرية الذين تحدثت 'اندبندنت عربية' إلى بعض منهم.
وكان من بين أولئك الأشخاص الموظف الحكومي مصعب حمود الذي تحدث عن الجنازة التي خرجت لتشيع الضحايا الذين وصفهم بالمدنيين العزل، مشبهاً الجنازة بتظاهرة كبيرة.
واستنكر في آن الانتقائية في عمليات الاقتحام، إذ إن قريته لا يوجد بها ضباط على حد تأكيده، وبأنها لم تعط مهلة للتفتيش، كما يجري في مناطق أخرى كدمشق مثلاً التي ينذر سكان بعض مناطقها قبل فترات طويلة بأن حملة أمنية ستقام في مناطقهم.
وبحسب مصعب فإن 'ما حدث هز سوريا بأكملها، مشهد الجنازة المهيب، المآقي التي لم يجف دمعها، معتقلونا الذين لا ندري مصيرهم، قتلانا الذين لا نعرف بأي ذنب قتلوا، والأهم أننا نعتبر واحدة من أفقر القرى السورية وأكثرها حاجة، وأنا متأكد أن القيادة في دمشق لا تعلم تفاصيل ما حصل ولا حيثياته، وحتى اليوم لا نعرف من يتخذ مثل هذه القرارات، ولا نعرف في مصلحة من تصب كل هذه الأعمال المتزامنة، إذ لم نكد نرتكن لساعات حتى جاءت أخبار مقلقة من مدينة مصياف المجاورة'.
في حين أبرزت صور تناقلتها معرفات إلكترونية تابعة لوزارة الداخلية مصادرة كميات من الأسلحة والصواريخ على خلفية الحملة.
مصياف وإخوان الصفا
تعتبر مصياف واحدة من أهم الحواضر العلمية والثقافية والاجتماعية وسط سوريا إلى الشمال الغربي من مدينة حماة، إذ يتقاسم توزيعها الديمغرافي بصورة شبه مناصفة بين الإسماعيليين والعلويين، وهناك في المنطقة يوجد واحد من أقدس المقامات الدينية لدى الطائفة الإسماعيلية ويسمى 'المشهد' أو 'إخوان الصفا'.
وفوجئ الأهالي بدخول عناصر مسلحة يجهلون تبعيتها إلى المقام وإطلاقهم النيران والعبث بمحتوياته وتخريب بعضها، مما استدعى تظاهرة داخل مدينة مصياف تندد بالحدث الجلل على حد وصف سكان المدينة، ولتنفض تلك التظاهرة بتدخل الأمن العام عبر إطلاق الأعيرة النارية في الهواء لتفريقها، وبالفعل افترقت مع مطالبات بمحاسبة مرتكبي الانتهاك.
بانياس
لم يجد الناس في زحمة تلك الأحداث فرصة للتنفس حتى باغتهم مقطع فيديو منقول عن كاميرا مراقبة في قرية خراب مرقية في مدينة بانياس الساحلية، لتوقُّف سيارتين من نوع جيب وفان ونزول مسلحين ملثمين مجهولي الهوية من داخلهما فاتحين النار على سوبر ماركت في المنطقة مردين أربعة أشخاص مدنيين قتلى، للمفارقة أن أحدهم ينحدر من مدينة إدلب وقد لجأ إلى الساحل في مرحلة الحرب، وآخر مقعد على كرسي متحرك.
تلك الجريمة مع وضعها في سياقها الزمني ضمن سلسلة الاعتداءات من حمص إلى الساحل ما كانت إلا لتزيد شحن النفوس وتطالب بإحقاق العدالة والتصرف الجدي من قبل السلطات في وقف الانتهاكات وعمليات القتل، سواء تلك الناجمة عن تصرفات باتت أكثر من فردية أو تلك الانتقامية أو الثأرية أو العبثية.
بالذبح جيناكم
في خضم كل ذلك كانت مدن الساحل الرئيسة (اللاذقية وطرطوس) تشهد تظاهرات ليلية متكررة، اتسمت غير مرة بالبعد الطائفي وإطلاق شعارات مهينة في حق مكونات أخرى، وأثبت استخدام مكبرات الصوت تسجيلاً صوتياً يرجع إلى حقبة 'داعش' يقال فيه 'بالذبح جيناكم' من دون حصول احتكاكات مباشرة، وحدث ذلك في اللاذقية فعلياً، ولكن تبعته تظاهرة ممن وصفهم أهل المدينة بالعقلاء الذين نادوا في التظاهرة اللاحقة: 'الشعب السوري واحد، العلوي أخو السني'، وتكرر الأمر في طرطوس وحين كانت الأمور وكأنها ستخرج عن السيطرة يتدخل الأمن العام لتفريق المتظاهرين.
أيادٍ خفية
يقول المهندس علي أحمد أحد سكان مدينة طرطوس والشاهد على واحدة من تلك التظاهرات إن أعمار المتظاهرين لا تعدو الـ20، وإن جميعهم مراهقون، فيما يبقى التعويل على العقلاء الذين على رغم سقوط النظام ما زالوا يترابطون اجتماعياً بشكل وثيق، لما لعبه الساحل من دور كبير باحتضان أكثر من مليون نازح من إدلب وحلب ودير الزور وغيرهم خلال الحرب.
وفي غمرة الأحداث تلك والانتهاكات الأخرى التي لم تذكر تبدو القيادة السورية الجديدة يوماً بعد آخر أبعد عن الشارع السوري، في وقت يجب عليها أن تراعي مبادئ العدالة الانتقالية وتحقيق الأمن والأمان لكل المكونات، والتركيز على مبدأ العيش المشترك في ظل التهديدات التي تلفها من قبل إسرائيل في الجنوب السوري، وإشكالات التوافق مع الأكراد في الشمال الشرقي.
ولما بدا على الرئيس أحمد الشرع حسن تصريحاته وحنكته وبراغماتيته السياسية ونجاحه في تحقيق الانفتاح المطلوب مرحلياً، ونجح معه وزيرا الخارجية والدفاع في إدارة ملفاتهما قدر المستطاع، لكن الأمور لا تنذر على الأرض بخير وفير، وبناءً عليه ينصح المحلل السياسي ملهم عفوف القيادة الجديدة بالالتفات إلى الداخل السوري وتحقيق التوازن مع قيادة الملفات الخارجية، منبهاً أن مغبة تفلت الأوضاع قد تودي بسوريا إلى نفق مظلم، والناس قد بدأت تتململ وبأنه ما من مصلحة أحد الرهان على صبر الشارع السوري بمختلف مكوناته وأطيافه.
وأوضح أن 'الأكثرية ترى أن لها الحق في التمدد، وهذا حق مشروع بعد أعوام من القهر، والأقلية تعتبر أن لها حق العيش الآمن، ويشترك الطرفان أنهما أغرقا جوعاً وحاجة وفقراً وظلماً أيام النظام المخلوع، ولكن إن كان الأمر سوء تدبير أو نية غير سليمة هي من تدفع بالشارع نحو التفجر والتهام نفسه، فهو ما يسترعي الهدوء وإيجاد دستور وقوانين وعقد اجتماعي بأسرع ما يمكن، علَّ في ذلك فرصة لإنقاذ البلد مما يحاك له، وفي الوقت ذاته لا أستبعد أن يكون كل ما يحصل تجاذبات استفزازية في إطار صراع دولي يتخطى الحكم نفسه، ويسعى إلى زعزعة استقراره داخلياً وجره نحو ما لا يتمنى السوريون إعادته بعد ما ذاقوه في عقد ونصف العقد'.