اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١١ نيسان ٢٠٢٥
لم تدفع أنواع الموت السوري الشرائح التقليدية داخل المجتمعات السورية إلى التفكير بمفهوم 'غسل العار'، بل تمّ استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة في ذلك، عبر تصوير 'غسل العار' وتوثيقه بكاميرا الموبايل، أمام تشفي البعض، وحزن آخرين، وفخر القتلة بجريمتهم.
في فيديو صادم كان يُسمع فيه صوت فتاة شابة تتوسّل عدم قتلها، لكن القاتل لم يتردّد في إطلاق النار… أقدم رجلان في منطقة منبج شرق حلب، على قتل فتاتين عبر إطلاق النار عليهما، تحت مسمّى ما يُعرف باسم 'جريمة الشرف'. الرجل الأول قتل شقيقته، فيما قتل الآخر ابنته، وقد وثّقا جريمتيهما وتباهيا بهما بوصفهما 'غسلاً للعار'
لكن ما هو العار هنا!
إعلام محلّي نقل أن الفتاتين، وكلتاهما لم تتجاوز الثامنة عشرة من العمر، اختُطفتا من قِبل عصابات إجرامية تتاجر في المخدّرات، وقد تمّ قتل الفتاتين من قِبل ذويهما، بعد الإفراج عنهما.
الفتاتان كانتا ضحيّتين مرّتين، وربما مرّات عديدة في هذه الحالة، عند الخطف وعند العودة وعند القتل على يد العائلة، التي يُفترض أن تحميهما وتلاحق من خطفهما، لكن واقع النساء في هذه المنطقة يقول شيئاً آخر.
عند مشاهدة فيديو توسّل الفتاة أخيها قبل إطلاق النار عليها من سلاح من نوع 'كلاشنكوف'، أعادني صوتها لقصّة مشابهة حدثت منذ عشرين سنة في مدينة حلب.
في طفولتي، أذكر حين ضجّت الحارة التي وُلدت فيها في مدينة حلب شمال سوريا، بأصوات زغاريد نساء ملأت الفضاء. لم يكن عرساً أو احتفالاً بعودة مغترب، أو خروج سجين من سجنه كما العادة التي جرت في تلك الأيام، كان الاحتفال ابتهاجاً بشاب قام بـ'غسل عاره'، إذ قتل أخته بعد أن أغلق أهله وأعمامه الباب عليهما هو وشقيقته، ولم يسمعوا إلا صوت بكاء أنثى انتهى بصوت الرصاصة في الغرفة الصغيرة، لتعلو على إثرها أصوات الزغاريد في الحارة.
وتناقلت نساء الحارة قصّة الضحيّة بحسرة، وتناقل رجال الحارة تفاصيل القصّة بفخر. جمعتُ تفاصيل القصّة من الرجال والنساء الذين لم يذكروا القصّة دفعة واحدة، بل مع كل إبريق شاي وليلة أعقبت الحادثة، كانوا يذكرون تفصيلاً جديداً، بوصفها حكاية تصلح للثرثرة، وليست قصّة قتل إنسانة بريئة على يد من يفترض بهم حمايتها…
تقول القصّة إن الفتاة كانت تحبّ صديق أخيها، وعندما عرف أخوها بالقصّة ضربها، وتمّ إسعافها، ثم معاينتها من قِبل عدد من الأطباء، حتى أخذتها أمها؛ خجلاً، إلى دكتور متخصّص بالأمراض العصبية.
وخشية السمعة حول عدم خطوبتها في حال انتشر خبر أنها تعاني من حالة عصبية، أخذت الفتاة الدواء وواظبت عليه. بحسب روايات الأهل فإن الفتاة وبسبب تأثيرات الدواء، خرجت ذات مرّة ليلاً، وتعثّرت ووقعت على الأرض أمام منزل يسكنه رجل مسنّ وزوجته، اللذين ساعداها على الاستيقاظ من تأثيرات الدواء وعوارضه الجانبية، لتعود في مساء اليوم التالي إلى منزل أهلها بإرادتها، إلا أن والدها وأعمامها ونساء العائلة لم ترق لهم قصة 'الرجل المسنّ'، الذي جاء وشهد أنه لم يمسّها، حتى شهادة الطبيب الشرعي أكّدت عذريتها، إلا أن أهلها خافوا من كلام الناس، ليتمّ إقناع أخيها ذي السادسة عشر عاماً بقتلها…
هذه جرائم لا تُعالَج بمحاكمة الفاعل فقط؛ في حال تمّت محاكمته، بل عبر إيقاف هذه الممارسة المروّعة، التي تكرسّت كظاهرة توصم المجتمعات بالعار ولا تغسله.
عادة في مثل هذه الجرائم، تلجأ العائلة الى تكليف الشقيق القاصر بجريمة القتل، كون ذلك سيمنحه عقوبة مخفّفة، خصوصاً إذا اقترنت بما يسمّى قضيّة شرف، فحينها يمكث البعض شهوراً قليلة في السجن… يعني القضيّة محبوكة.
قُتلت الفتاة تحت اسم جريمة الشرف، ولم يعد نساء الحارة ورجالها يذكرونها، إلا حين تحدث جريمة شرف أخرى في حي آخر… 'أمسكت والدة الفتاة بها حتى لا تتعذّب قبل موتها، عندما ذبحها والدها'، تقول قصّة فتاة أخرى.
كلما كبرت يعلو صدى مثل هذه الجرائم في رأسي، حكاية من حلب، وأخرى من السويداء، وثالثة من الحسكة، وتتواتر القصص عن جرائم قتل النساء التي تسمّى 'غسل العار'، ويتباهى القاتل بجريمته، ويُسمح له بالجلوس في مجالس الكبار، حتى مصروفه داخل السجن 'يكون واصل له'، كما يقولون، ويهابه الآخرون.
اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس من عام 2011، وزال حكم الأسد في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024، ومرّت سوريا خلال هذه السنين بأنواع كثيرة وقاسية من الموت والعنف عاشها الناس. اختلفت المجتمعات في ما بينها سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وتفرّقت، إلا أنها بقيت على عهدها في تقديم قرابين 'الشرف' على مذبح 'العادات والتقاليد' و'كلام الناس'.
لم تدفع أنواع الموت السوري الشرائح التقليدية داخل المجتمعات السورية إلى التفكير بمفهوم 'غسل العار'، بل تمّ استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة في ذلك، عبر تصوير 'غسل العار' وتوثيقه بكاميرا الموبايل، أمام تشفي البعض، وحزن آخرين، وفخر القتلة بجريمتهم.
تحاربت الجهات العسكرية في ما بينها حول الكثير من القضايا والمفاهيم الدينية والقومية، إلا أنها اتّفقت ضمنياً حول عدم المساس بفعل 'غاسل العار'، بحجّة الأعراف والتقاليد واستمالة الأهالي؛ مرتكبي الجرم، في أن يكونوا ضمن صفوفها.
بعد سقوط نظام الأسد وحتى نيسان/ أبريل من عام 2025، شهدنا جرائم شرف عديدة في مدن سورية مختلفة: السويداء والحسكة وآخرها جريمة منبج. لم تتغيّر قصّة الفتاتين من منبج في تفاصيلها عن تلك التي شهدتها في حلب في صغري، إلا أن أداة القتل تطوّرت، وأصبح السلاح 'كلاشنكوف'، بدلاً من 'مسدس'؛ قد يكون غير مرخّص، وتمّ تصوير الجريمة، ولم يعد يتناقلها الناس على ألسنتهم، بل يكتفون بالمشاهدة.
جلّ هذه الجرائم موثّق بالفيديوهات، مثل استجداء الأخت أخاها، الأخت التي على الأرجح تخاف على شقيقها الصغير، أكثر من خوفها على نفسها، وكانت قد ربّته مع أمهما، أو استجداء والدها أو ابن عمها. في كلّ الفيديوهات يقطع صوت الرصاص نحيب الضحيّة، التي تُقتل دونما قضاء، ولا محاكم، ولا شرائع تفنّد القضية وتحكم فيها، فالحكم فيها دائماً لصالح الفاعل وليس الضحيّة.
سجّلت الكثير من الفرق والمنظّمات الحقوقية والإنسانية السورية، العديد من التقارير التي حاولت أن تُحصي فيها عدد جرائم الشرف في سوريا، إلا أننا على يقين وللأسف، أنه لا توجد إحصائية حقيقية وكاملة في سوريا توثّق جرائم الشرف، وعلى الحكومة الجديدة في سوريا أن تبدأ خطواتها بشرف، عندما تحارب جرائم الشرف في هذا البلد، لا أن ننتظر مشاهد صادمة حتى تتحرّك السلطات، أو عندما تحدث ضجّة إعلامية فقط.
هذه جرائم لا تُعالَج بمحاكمة الفاعل فقط؛ في حال تمّت محاكمته، بل عبر إيقاف هذه الممارسة المروّعة، التي تكرسّت كظاهرة توصم المجتمعات بالعار ولا تغسله.