اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٤
بدا القرار محتوماً وغير مرجح طوال أشهر، لتصدر أخيراً المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت وزير دفاعه الذي بقي يشغل هذا المنصب حتى فترة قريبة، واتهم كلاهما بالإشراف على جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في حربها التي امتدت سنة على غزة. كما وجهت المحكمة لائحة اتهامات لأحد كبار القادة العسكريين لدى حماس وذلك بسبب تنفيذه لهجوم على الإسرائيليين دفع بإسرائيل للهجوم على غزة. غير أن الاتهامات الموجهة للمسؤولين الإسرائيليين شكلتا الزلزال الحقيقي، إذ تلك مصيبة سياسية حلت على نتنياهو، ولعلها قد حلت على المحكمة نفسها أيضاً.
طالب كريم خان وهو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار تلك المذكرات في شهر أيار الماضي، والقضية التي رفعها منفصلة عن الاتهامات التي وجهت لإسرائيل بارتكابها أعمال إبادة ضد الفلسطينيين، والتي بقيت معلقة بانتظار البت فيها أمام محكمة العدل الدولية التي تقيم جلسات استماع للفصل في النزاعات بين الدول (فيما تفصل المحكمة الجنائية الدولية بين الأفراد وتحاكمهم)، غير أن نوع الاتهامات الموجهة لنتنياهو وغالانت من السهل إثباته مقارنة بتهمة الإبادة التي اتهمت بها إسرائيل، وهكذا اتُهم كل منهما باستخدام التجويع كسلاح في الحرب على غزة، وبتوجيه هجمات ضد المدنيين في تلك المنطقة.
تبين لهيئة المحكمة المؤلفة من ثلاثة قضاة بأن هنالك أسس منطقية للاعتقاد بوقوع تلك الجرائم، ولا غرو أن الأحداث التي وقعت مؤخراً أكدت أساس القضية التي رفعها خان، وذلك عندما استمرت هيئة الأمم المتحدة في التحذير من مجاعة باتت وشيكة في شمالي غزة، بما أن هذه المنطقة أصبحت معزولة تماماً عن المساعدات الغذائية التي انقطعت عنها طوال الأربعين يوماً الماضية.
ورفضت هيئة المحكمة طعن إسرائيل بالقرار، بحجة أن المحكمة ليس لها سلطة قضائية تمثلها في غزة، على الرغم من أن فلسطين التي تعتبر غزة من أراضيها قد وقعت على نظام روما الأساسي الذي يعتبر العمل الإطاري القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، والقضاة أصدروا حكماً يمنحهم سلطة فتح تحقيق بالجرائم المرتكبة هناك.
تأسست المحكمة الجنائية الدولية لتكون الملاذ الأخير الذي بوسعه التدخل في حال فشل محاكم دولة ما في مقاضاة جهة ما على انتهاكاتها، ولذلك نصح المحامي العام بإسرائيل نتنياهو خلال هذا العام بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في إسرائيل لأن ذلك من شأنه أن يعطل عمل التحقيقات التي فتحتها المحكمة الجنائية الدولية، ولكن نتنياهو لم يفعل، والقضاة ذكروا بأن إسرائيل لم تفعل ذلك في القرار الصادر عن محكمتهم.
المحكمة بريئة من معاداة السامية
وهذا القرار كاد أن يتحول إلى إدانة وشجب شبه عالمي للسياسيين في إسرائيل، ولهذا وصفه بتسلئيل سموتريتش وهو وزير المالية من اليمين المتطرف بأنه يمثل 'وصمة قابيل' على جبين المحكمة الجنائية الدولية، في حين قال عنه يائير غولان زعيم أحد الأحزاب اليسارية بأنه 'قرار مخز'، واعتبره كثير من الإسرائيليين نتيجة لمعاداة السامية، كما وصفه نتنياهو نفسه بأنه: 'محاكمة دريفوس الحديثة' وذلك في إشارة إلى المحاكمة التي تعرض لها ضابط يهودي في الجيش الفرنسي عام 1894.
إلا أن تهمة معاداة السامية تبخس المصطلح حقه، إذ لا وجود في تاريخ المحكمة ما يوحي بالهوس باليهود، فمنذ أن تأسست في عام 2002 كانت معظم القضايا التي فصلت فيها هي تلك التي تتصل بأمراء الحرب والمستبدين الأفارقة من أمثال عمر البشير، ديكتاتور السودان السابق، وسيف الإسلام القذافي نجل طاغية ليبيا التي حكمها لفترة طويلة، وعلى مدار العامين المنصرمين، أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال بحق مسؤولين روس بينهم فلاديمير بوتين، وذلك بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي توجه فيها هذه المحكمة اتهاماتها لإسرائيليين.
مذكرات اعتقال بحق فلسطينيين أيضاً
وإلى جانب نتنياهو وغالانت، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق محمد الضيف، وهو أحد القادة العسكريين في حماس الذي شغل هذا المنصب لفترة طويلة، فقد اتهم بإدارة عملية قتل مدنيين إسرائيليين في السابع من تشرين الأول عام 2023، إلى جانب جرائم أخرى، إلا أنه قد لا يستطيع المثول في محاكمة، بما أن إسرائيل تعتقد أنه قد قتل بغارة جوية نفذتها في تموز الماضي (ولقد أصدرت المحكمة مذكرة الاعتقال تلك لأنها لم تستطع التأكد من مصيره)، وطالب خان بإصدار مذكرة اعتقال بحق يحيى السنوار مهندس هجوم السابع من تشرين الأول لعام 2023، وإسماعيل هنية، زعيم حركة حماس، ليسحب هذا الطلب عند اغتيال إسرائيل لهاتين الشخصيتين خلال هذا العام.
ليس ثمة أي خطر يهدد بتسليم إسرائيل لنتنياهو وغالانت إلى لاهاي، بما أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، ولكن بقية الدول الأعضاء فيها والبالغ عددها 124 بينها دول تعتبر من أخلص أصدقاء إسرائيل، لذا فإن أقرب نتيجة ستترتب على هذا الحكم تتمثل بحرمان كلا الرجلين من السفر إلى تلك الدول خوفاً من التعرض للاعتقال هناك. وهذا ما دفع جوزيب بوريل، رئيس قسم السياسة الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي، إلى القول إن قرار المحكمة ملزم لكل الدول الأعضاء ضمن الاتحاد الأوروبي، أما عيران عتصيون، وهو النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي، فقد كتب ليقول: 'لقد أنهى نتنياهو رحلته كرئيس شرعي على الساحة الدولية'.
المأزق الأميركي
لذا فإن الاستثناء الوحيد هنا هو أميركا بكل تأكيد، بما أنها ليست عضواً في المحكمة، وقد كان القرار مفاجئاً لدى الفريق الانتقالي الرئاسي، كما أنه سيحرج إدارة جو بايدن التي ستترك المنصب قريباً، وسيخلق انقساماً بين الديمقراطيين والجمهوريين الغاضبين في أثناء استعدادهم لتولي مقاليد الأمور في البيت الأبيض وفي كلا مجلسي الكونغرس خلال شهر كانون الثاني المقبل.
ولذلك، نبه كبار الجمهوريين إلى إمكانية فرض أميركا لعقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بدعم من الديمقراطيين إن أمكن أو من دونه إذا لزم الأمر، فقد توعد مايك والتز الذي اختاره دونالد ترمب ليكون مستشار الأمن القومي لديه برد قوي على 'انحياز المحكمة لمعاداة السامية'، أما جون ثون الذي يتزعم الأغلبية الانتقالية لدى مجلس الشيوخ، فقد دان هذه الخطوة التي وصفها بـ 'الشائنة والغير قانونية والخطيرة' من قبل المحكمة، وزعم بأن تصرفاتها لا تخضع لأي رقابة، ولهذا يمكن أن تمثل تهديداً للولايات المتحدة مستقبلاً على حد قوله.
وقد حث هذا الرجل تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية لدى مجلس الشيوخ على الاستعانة بمشروع قانون سنه مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون في حزيران الماضي والذي يقضي بفرض عقوبات اقتصادية شاملة وقيود على التأشيرات التي تمنح للقضاة ولكل من له صلة بالمحكمة الجنائية الدولية، ويشمل ذلك أهالي القضاة والعاملين فيها، وحذر الجمهوريين من مغبة عدم القيام بذلك، لأنهم لابد أن يتخذوا هذا القرار خلال شهر كانون الثاني بعد أن يتحول إلى 'أولوية قصوى' على حد تعبيره.
ومن جانبهم، انقسم الديمقراطيون فيما يخص الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، إذ في العشرين من تشرين الثاني، رفض مجلس الشيوخ رفضاً قاطعاً ثلاثة إجراءات تدعو بايدن إلى وقف شحنات الأسلحة الكثيرة المقدمة لإسرائيل، إلا أن 17 ديمقراطياً من أصل 47، واثنين من المستقلين اللذين يؤيدونهم، صوتوا على الأقل لصالح إجراء واحد من تلك الإجراءات الحساسة، وبذلك أضحت إدارة بايدن في مأزق، إذ إنها وقفت ضد رفع دعوى ضد إسرائيل، لكنها أيدت المحكمة في إصدارها لمذكرة اعتقال بحق بوتين ورفضت مشروع القانون الذي سنه مجلس النواب والذي يقضي بفرض عقوبات لكونه يعبر عن حالة شطط ومغالاة.
والمضحك في الأمر هو أن المحكمة هي من يُرجح لها أن تعاني من التبعات الفورية لهذا القرار والتي ستتمثل بعقوبات تفرضها عليها أميركا، أما نتنياهو فلن تنتهي به الأمور في قفص الاتهام، كما لن تنهي إسرائيل حربها على غزة، لكن ستترتب على الحكم تبعات على المدى البعيد، إذ ستزداد العزلة المفروضة على نتنياهو وعلى البلد التي يترأسها، كما سيزيد اعتمادها على الولايات المتحدة.
المصدر: The Economist