اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ١٣ نيسان ٢٠٢٥
سعادة لا توصف تغمر الأبوين عند سماع صغيرهم يتلفظ بكلمته الأولى، والتي يعادل وقعها الخطوة الأولى حين تتنقل بها أقدامه الصغيرة. إلا أن تلك الكلمة، والتي تكون غالباً اسم شخص يحبه مثل: 'بابا، ماما، تيتة (الجدة)'، أو شيء يحبه فيسميه اسماً يختاره بلغته الجديدة المبتكرة، والتي لن يفهمها ويحلل شيفراتها سوى الأبوين، لن يقف عندها الطفل، بل سرعان ما ستنمو مع نموه ليكبر قاموسه الصغير.
ولكن، هل لنا أن نفرح لمجرد النطق، ونتركه ليتكلم بقدراته البسيطة كما يحلو له، أم الأجدر بنا أن نراقب تلفّظه، ونصوّب عثراته وتلعثمه، لنأمن له نطقاً سليماً، بل ونثريه بالقراءات والنقاشات الفصيحة التي توسّع من فهمه؟
نركز في هذا التقرير على الفروقات الفردية في النطق لدى الأطفال من عمر سنتين إلى ست سنوات، لملاحظة أثر البيئة المحيطة في توليد جيل متمكّن من نطقه، وقادر على التعبير عن نفسه بثقة يستمدها من لغته السليمة.
حديث الوالدين: بذرة اللغة الأولى
للأبوين دور محوري في السنوات الأولى من عمر الطفل، فالتواصل العاطفي والكلام اليومي معه، وطرح الأسئلة المفتوحة، والقراءة بصوت مرتفع، تخلق أساساً متيناً للنمو اللغوي، حيث تعمد الغالبية من الأمهات إلى مخاطبة أطفالهن في عمر مبكر لغايات عديدة، أهمها تعويده على حسن الإصغاء، وتخزين أكبر قدر ممكن من المفردات في ذهنه.
ريما، 44 عام، وهي مصممة أزياء وأم لطفلين، تقصدت كغيرها من الأمهات مخاطبة أطفالها في عمر مبكر، تقول 'أبدأ بالتحدث إليهم باللهجة المحلية، ماما رح أعملك ببرونة، تعال نحكي مع بابا، صار وقت تغيير الحفوضة، وأحياناً كنا نستمع إلى أغنية مثلاً وأشرح لهم كلماتها'.
ولكن، مع الأسف، نلاحظ أن كثيراً من الأهل يستخدمون لهجة هجينة يستسيغ الأطفال سماعها حسب زعمهم، من خلال ترقيق بعض الحروف كاستبدال الجيم بالزاي، والكاف بالتاء، والراء باللام، والشين بالسين، إضافة إلى هضم الأحرف اللثوية في بعض اللهجات.
ويمكن اعتبار ذلك خطأ كبيراً للغاية، فالطفل يتلقى تلك الكلمات منهم للمرة الأولى، وستعلق في ذهنه ويستخدمها لاحقاً ظانّاً صحتها، ليقع الأهل بعدها في معاناة كبيرة مع الطفل حتى يتجاوزها ويبدأ بالتحدث بشكل سليم.
الدكتورة فردوس ترجمان، وهي استشارية تربوية تعمل في مجال التربية والتعليم منذ مراحله الأولى لسنوات طويلة، تؤكد على لفظ الأحرف اللثوية بشكلها السليم، حيث تشير إلى أن معظم الأهالي في بلادنا يخففونها باستبدالها بأحرف أخرى، وهذا خطأ كبير أصلاً ينقلونه لصغارهم مع الأسف.
تقول الدكتور فردوس 'صادفت من خلال عملي الكثير من الأطفال الذين تتساوى عندهم الذال والظاء والزاي، فعلى سبيل المثال ينطقون نظر كما ينطقون نذر، وفي الحالتين تستبدل الظاء والذال بالزاي فتصبح الكلمتين نزر لفظاً، وشتان في المعنى بين الثلاثة'.
فالحل هو القراءة السليمة منذ البداية باتباع طرق مشوقة ومحببة يمكن للأم أن تبتكرها، من خلال حركات في الوجه أو ترديدها بنغمات مختلفة تجذب أذن الطفل وتحفزه على تجريب نطقها، فإن نطقها سليمة للمرة الأولى، فلن يعود ويستبدلها بنطق خاطئ أبداً.
ووفق الدكتورة فردوس فإن 'نطق الصاد مفخّمة بصوت مختلف مع حركة في الفم في قولنا يخطف الأبصار ستحفزه على تجريب نطقها، وكذلك هي الحال مع ترقيق السين في قولنا الناس'.
أما عن بعض الاختصارات، والتي وصفتها بـ'القبيحة' مثل 'تاكل مم'، و'تروح تش'، و'تنام ؤؤ'، فتشدد على ضرورة الابتعاد عنها، لأنها ستترسخ على شاكلتها في ذهن الطفل، وسيداوم على استخدامها، في الوقت الذي كان بإمكانهم استبدالها مباشرة بالمسميات الحقيقية للأفعال والأشياء.
تعثر النطق خطوة أولى نحو اللسان السليم
لا تدل بعض الأخطاء الشائعة في النطق عند الأطفال على ضعف، بل على مرحلة من مراحل التعلم، فلفظ الأحرف الشفوية مثلاً أبسط من الأحرف الحلقية أو التي تلفظ من الحنك أو شجر الحنك، فيلجأ الطفل هنا إلى الإبدال الصوتي، مثل 'تليبون' بدل 'تلفون'، و'بكسليت' بدل 'بسكليت'، أو إلى التعميم الزائد كأن يسمي جميع الحيوانات كلباً أو قطة، أو نطق المفردة بشكل سليم ولكن توظيفها في سياق خاطئ نتيجة محاكاة غير واعية.
آمنة نوير، مجازة في كلية التربية وهي معلمة في مرحلة رياض الأطفال، تؤكد الأمر وتشير إلى أن 'التكرار والتصحيح غير المباشر في هذه المرحلة هما أنجح طريقتين للتعامل مع أخطاء من هذا النوع، دون التأثير على ثقة الطفل بنفسه'.
من جانبها أيضاً، تشدد الدكتورة فردوس على عدم تكرار المفردات الخاطئة أمام الطفل ولو بالمزح، توضح أنه 'لا شك أن الأهل سيضحكون، لذا سيفرح الطفل ويعيدها، فالصواب هو عدم نهره عليها، ولا تكرارها له، ولا مخاطبته بها ظنّاً أنه سيفهمها، بل تكرار لفظها بالشكل الصحيح'.
كيف نصنع طفلاً فصيح اللسان بخطوات يومية؟
يلجأ معظم الأهالي إلى القرآن الكريم لتدريب أطفالهم على النطق الجيد وتعزيزه لديهم، فإن سمعه تكراراً وبدأ يحفظ ويقرأ تجويداً، فسيحصل الأهل دون عناء على طفل ذي لسان قويم، بليغ، فصيح في النطق، وقوي الشخصية.
وبحسب ريما، فإنها بدأت بتدريب صغارها على سماع قصار السور القرآنية في عمر سنتين، مما ساهم في تحسين جودة النطق لديهم، تقول: 'كان سليمان يتلعثم بحرف السين بداية، وكذلك بيلسان، إلا أن ارتيادهم مركزاً لتعليم القرآن ساهم في تحسين جودة نطقهم وقدرتهم على التحدث بشكل سليم، إضافة لتكرار الاستماع وتصويب الأخطاء الذي ساهم في تجاوز تلك المشكلة'.
تقول الدكتورة فردوس إن 'قراءة الطفل للقرآن ولو بشكل بطيء وقصير جداً هي أمر مفيد، ولكن شريطة أن يكون بطريقة محببة ولا ينفر منها'.
وتشير إلى أن أحاديث الرسول الكريم القصيرة، على غرار 'كل معروف صدقة' و'تبسمك صدقة'، والأذكار اليومية، تأتي في مقدمة النصوص التي يعوّل عليها في تثبيت الفصحى في أذهان الصغار وتدريبهم على استخدامها بعد القرآن الكريم.
ثم تأتي الحكم والمواعظ والقصص الهادفة، التي تحمل معاني سامية مثل: الصدق، والأمانة، والعائلة، والأصدقاء، والجوار، والعلم، والعمل، والإيثار، حيث ستدرّب الطفل على تطبيق تلك المعاني السامية بالتوازي مع تدرّبه على النطق الفصيح.
هل يتجاهل طفلك ما تطلبه منه؟.. إليك بعض النصائح لجعله يصغي إليك
الفصحى المحببة
يكتسب الطفل لغته من خلال التفاعل النشيط، وليس التلقي السلبي الأصم، فعندما يسمع الطفل المفردات في عمر مبكر وللمرة الأولى ضمن سياقات غنية (كاللعب التخيلي والقراءة التفاعلية) يحفز دماغه على إنشاء روابط عصبية جديدة، مما يساعد في تعزيز مخزونه اللغوي، وهنا يأتي دور النقاش، فاستخدام المفردات لا يعني فقط معرفتها، بل القدرة على استخدامها وتوظيفها في مواقف حياتية بطريقة مناسبة ومعبرة.
تشير الدكتورة فردوس إلى أن نقاش الأهل مع الأطفال باللغة العربية الفصحى هو أمر مفضل وضروري جداً، شريطة أن تكون (الفصحى المحببة)، كما أطلقت عليها، والتي هي كلمات بسيطة، خالية من التكلّف، لا ينفر الطفل من سماعها، ويكون بمقدوره التجرؤ على استخدامها، فأذن الطفل نظيفة، وتنجذب للكلمات الفصيحة، وكلما بدأ الأهل بهذا الأمر بعمر مبكر، كلما حصلوا على نتائج أسرع وأفضل في ضمان نطق سليم عند الطفل.
وفي شرح 'الفصحى المحببة'، تقول الدكتورة فردوس 'إذا استخدم الأهل مفردات وتراكيب بسيطة مستخدمة في الحياة اليومية، مثل: أهلاً وسهلاً، من فضلك، لو سمحت، إذا لم يزعجك الأمر، فإنها ستترسخ في ذهن الطفل كما تلقاها للمرة الأولى، وسيعتاد استخدامها بطلاقة'.
يحب الطفل الألفاظ الغريبة، ويسأل دائماً عن معاني الكلمات، وهذا باب آخر يدخل منه الأهل باللغة الفصحى إلى مسامع الطفل، فبكل بساطة يمكن للأهل استخدام عبارة 'ما معنى هذه الكلمة' نيابة عن 'شو معنى هالكلمة'، مع الطفل، ليحصلوا على نتيجتين في آنٍ معاً، وهي استخدام الفصحى في السؤال، وفهمه الكلمة التي يسأل عن معناها، بحسب فردوس.
كيف يمكن أن تعرف أن طفلك عبقري ويملك مواهب مميزة؟
كلمات الأطفال صدىً لما يسمعون
تشكل البيئة المحيطة، والتي يمكن اختزالها بالأهل في هذه المرحلة العمرية، الرافد الأول والأساسي في تشكل نطق الطفل، فهو بالتأكيد سيتلقن وسيسمع كلماته الأولى منهم، وعنهم سيأخذ أسلوبه في الكلام، ومما لا شك فيه أن للخلفية الاجتماعية والفكرية عند الأبوين، إضافة للعوامل الوراثية، كبير الأثر على لغة الطفل، وهنا ستبرز الفروقات الفردية لدى الصغار في النطق.
فالطفل الذي ينمو في بيئة غنية لغوياً، سيسمع مفردات سليمة ومتنوعة من الأبوين، من خلال القراءة، واللعب، والحوار اليومي، قياساً بأطفال ينمون في بيئة محدودة لغوياً، بحسب آمنة.
وتشير آمنة إلى وجود فروقات في القدرات الإدراكية، فبعض الصغار يمتلكون ذاكرة سمعية قوية، أو قدرة فطرية على الربط بين الكلمات ومعانيها. فكل هذه العوامل تؤدي إلى تباين في ثراء الحصيلة اللغوية للطفل، وسرعة اكتساب المفردات، ومرونة استخدامها، وتوظيفها في المكان المناسب.
نور، 33 عام، وهي صحفية وأم لطفلين، لاحظت وفي عمر مبكر جودة النطق وسلامة الخطاب عند كلا طفليها، تقول نور 'بدأت ابنتي ذات الأربع سنوات حالياً بالتحدث في عمر مبكر، ولاحظت مباشرة قدرتها على تجاوز معظم الحروف ونطقها بالشكل السليم، وبثقة دون تلعثم'.
وتضيف نور أنه 'مع أنني تخوفت بداية من تأخر نطق أخيها قياساً بها، إلا أنه فاجأني عندما أتم العامين وبدأ يتحدث بشكل سليم، مستخدماً أساليب واضحة ولغة سليمة، كاكتشافه بعض الجموع لوحده مثل: (نوارس) و(أولاد)'.
كيف نحمي الأطفال من الأخبار السيئة والصادمة؟
برامج الأطفال الكرتونية: معلم حاضر للنطق
تترك مشاهدة الأفلام الكرتونية والبرامج التعليمية باللغة العربية السليمة أثراً لا يقل أهمية عن دور الأهل في تعزيز سلامة النطق.
وبحسب نور، فإن 'هذه المشاهدات، إن كانت سليمة ومدروسة، فإنها تزيد أهمية حتى عن التعليم المباشر، لأنها تقوم على التكرار، وربط الحواس، والفهم المباشر من خلال الصور والرسومات، مما يساهم في ترسيخ اللفظ الصحيح للمفردات، وفهم معانيها في الوقت نفسه'.
ويتلخص دور الأهل هنا في اختبار المحتوى الذي يتلقاه صغارهم وتقييمه قبل عرضه عليهم، تؤكد نور أن 'المحتوى الخاص بالأطفال، والذي ينطق شخوصه باللغة العربية بشكل سليم وممتاز، متوفر وبكثرة، وهناك منصات كثيرة أخذت على عاتقها هذه المهمة، ونجحت في ذلك، ومنها ما يقدم محتوى جميلاً من الناحية اللغوية السليمة، إضافة للقيم الأخلاقية والثقافية التي تحملها، وتعزز الهوية والانتماء'.
وتشير في نهاية حديثها إلى أنها كأم، مع متابعة الأطفال لمحتوى عربي جيد، وخاصة في حال إقامتهم في بلدان غير عربية، مع أن الكثير من الأهالي يفضلون المحتوى الناطق بلغة بلد الاغتراب.
نصائح لدعم الطفل.. مشاعر القلق عند الآباء تغذي رهاب المدرسة عند الأطفال
المدرسة والمعلم: مهندسو النطق السليم
ليست المدرسة مكاناً للتعليم فقط، بل هي منصة للتوجيه المجتمعي، بحسب آمنة، حيث تقول 'يمكن للمدرسة أن تنظم ورش عمل للأهالي حول طرق تعزيز اللغة في المنزل، كأهمية تعريب البرامج التي يشاهدها الطفل، على سبيل المثال'.
وبالتالي، فإن للمدرسة دوراً كبيراً ومهماً في تحسين جودة النطق لدى الصغار، كما أن لمتابعة المعلم المباشر الدور الأكبر، حيث يتجاوز دوره التعليم إلى التوجيه، فهو من سيكتشف نقاط ضعف الطفل ويقويها، من خلال استراتيجيات تربوية مثل التكرار، والربط بين الكلمات والصور، والأنشطة الجماعية التي تتطلب الحوار والتفاعل.
وتؤكد آمنة على أن 'التعاون بين المعلم والأسرة يخلق بيئة متجانسة تدعم الطفل لغوياً على مدار الساعة'.
ثم تأتي المناهج الإثرائية الحديثة لتعزز جودة النطق عند الصغار، وبحسب آمنة، فإن 'منهج (منتسوري) مثلاً يشجع الطفل على الاكتشاف الذاتي، باستخدام أدوات حسية تربط اللغة بالحواس والتجربة، أما منهج (ريجيو إميليا) فيعتمد على المشاريع المفتوحة، التي تثير الفضول وتحفز الحوار بين الأطفال، في حين يركز منهج (فالدف) على السرد القصصي والغناء كوسيلة لتعزيز اللغة.
وتعتبر آمنة من خلال تجربتها في رياض الأطفال أن منهج 'فالداف' من أفضل المناهج في مرحلة رياض الأطفال، مشيرة إلى وجود بعض المناهج التي تعتمد على التعليم العاطفي من خلال ربط اللغة بالمشاعر، مما يساعد الطفل على التعبير بشكل أعمق.