اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٢٦ كانون الأول ٢٠٢٤
مساحة الحقيقة مرتبطة باللغة التي تمّر من خلالها. وقد جرب السوريون خلال نصف القرن المنصرم كل اللغات التي توارب الحقيقة، في الإعلام، في الشعارات، في المناهج المدرسية، لا بل حتى في خطب المساجد أيام الجمعة. فأصبح الشعب السوري بين حقيقتين؛ الحقيقة التي فصّلها النظام على مقاسه، وهي الحقيقة السائدة التي ارتفع صوتها، وكثر أتباعها، والحقيقة الموضوعية التي خفت صوتها، وقلّ أتباعها.
في الهزيع الأخير من عمر تلك المهزلة كتب أطفال درعا أحلامهم على الجدران، فارتجّت، واستيقظ ضحايا الأمل من سباتهم، وبدأ التاريخ يكتب نفسه أغنية في ذاكرة السوريين. ثلاثة عشر عاما والنظام البائد يحاول القضاء على تلك الأغنية بكل الطرق، وكافة أنواع الأسلحة. أقصى وهجّر ودمّر، ولم يجده ذلك نفعا.
ملأ السجون بالمغنين، وبقيت الأغنية طليقة. قتل الآلاف من السوريين، وبقيت الأغنية حيّة. كل الذين راهنوا على سقوطها، سقطوا، وها هي تملأ الحناجر في كل الساحات. وأنا أسمعها عادت بي الذاكرة إلى فيلم 'المصير'، وأغنية 'علّي صوتك بالغنا، لسا الأغاني ممكنة'، فاختلط صوت محمد منير الذي استعادته ذاكرتي بأصوات الجموع الغفيرة التي اجتمعت في حديقة 6 تشرين للاحتفال بميلاد الحرية. حدث هذا في طرطوس بتاريخ الـ20 من كانون الأول الجاري.
بدعم من منظمات المجتمع المدنيNGO : 'جمعية أصدقاء الموسيقا، جمعية فضا للتنمية المجتمعية، جمعية سلام يا طبيعة، جمعية سنديان البيئية التنموية، جمعية البيت البوليفاريانو، جمعية المجد لأمهات الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة'. إضافة للهيئات الثقافية والفنية والمجتمعية: 'كورال أرجوان، كورال سيدات النغم، ملتقى اقرأ معنا، تجمع المحترف الفني، مجموعة عبق الموسيقية، تجمع أورنينا للفن التشكيلي، متطوعون لأجل عمريت، نادي الرسم المجاني للأطفال، معهد هارموني للموسيقا، Kanafani ENT Clinic، مختبر موج المسرحي، مركز المواطنة المتساوية، نادي أصدقاء الثقافة في طرطوس'، ومجموعة كبيرة من الشخصيات العامة، ورجال الأعمال.
وقفت أراقب الناس وهي تستعيد علاقتها بالحرية، تلك العلاقة الملتبسة، الحذرة. ثمة يقين ماثل في الأذهان أن الطغمة الحاكمة ذهبت وإلى الأبد.
اليوم فرح، الأسئلة كلها مرتبطة بالغد. ثمة الكثير من الأسباب التي تثير قلق السوريين، والطراطسة منهم. الأسوأ أن يكون هذا الخوف أو القلق من نصيب فئة أو جماعة بعينها. سوريا كلها الآن تتمرن على ممارسة الحياة الطبيعية، فالخروج من الهاوية التي كنّا فيها لأكثر من 60 سنة لن يكون دون ارتطامات، وانزلاقات، هذا طبيعي. وما رأيناه من اجماع شعبي ونخبوي على حق الشعب السوري بالحرية والكرامة تجاوز كل التوقعات.
في كل يوم تخرج عشرات التظاهرات في كل المدن السورية، يشارك فيها مئات الألاف، هذا الفرح بخلاصهم من الاستبداد ومنظومته، يقابله مطالب أولها السلم الأهلي. ودولة القانون التي توفر الحرية والكرامة لمواطنيها. وما هذا الحفل، والجهات الكثيرة التي ساهمت بقيامه، إلا دليل على حق السوريين بالفرح، بعد أن أخذ الحزن والقهر والذل والهوان حصته من حياتهم.
لست بوارد الحديث عن الغناء، إذ يكفي السوريين فخرا أن ثورتهم بدأت بأغنية. حاولت أن أقرأ أفكار الناس إلا أنني لا أتمتع بهذه الموهبة، فاضطررت أن أسألهم عن سوريا التي يريدونها. وجاءت إجاباتهم وفق التالي:
سلمان ريا - رجل أعمال:
'إنّ سقوط الهيكل الكرتوني الذي كان يافطة تضم الملايين ولا تضم أحداً في الحقيقة، ترك خوفاً في صفوف العديد من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم خارج اليافطة، ورغم التطمينات التي قدمها ممثلو العهد الجديد، إلاّ أنّ بعض الجهات ما زالت تحاول بث الشائعات التي من شأنها تقويض السلم الأهلي الذي تجمع عليه كل مكونات الشعب السوري، لذلك كان لا بدّ من فتح أبواب الحوار الحرّ الذي يزيل تلك المخاوف ويساهم في تكوين الرأي العام في رسم ملامح سوريا المستقبل، وقد دعا العديد من الوطنيين والأحرار إلى إقامة منتديات الحوار، والنشاطات الثقافية، التي يمكن أن تفرز رجالات الدولة الذين يحتاجهم الوطن، لجعل صوت السوريين فوق كل الأصوات الخارجية، وتحويل ما تدفق من الدم السوري إلى منجزات سياسية ترفع عماد الوطن، واستعادة قيم الأخلاق والعدالة، والنهوض بالفكر الاجتماعي لتعزيز الانتماء الطوعي المساهم في صياغة الهوية الوطنية، عبر تمتين الروابط الأفقية العابرة للمكونات الطائفية والإثنية والمذهبية، والتركيز على بناء الإنسان المواطن الذي ينتمي إلى الدولة (الوطن) التي تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات.
ملاذ الشيخ - مؤسسة ملتقى اقرأ معنا:
'على مر العقود والعهود، تميزت طرطوس بتنوعها الاجتماعي والثقافي، والتعايش الفريد بين أهلها. أرضها استقبلت الجميع، وسماؤها أظلت الكبير والصغير. لم تفرق بين عرق ودين، ولا بين طائفة وملة. ورغم كل الصعوبات والقيود، كانت ولا زالت مدينة الحب.. مدينة الفكر.. مدينة الثقافة.. المسرح والموسيقى، الندوات والأمسيات، المبادرات والأفكار والتطلعات. اليوم، وفي ظل بداية هذا العهد الجديد لسوريا بدأنا في طرطوس عقد لقاءات مكثفة للمشاركة في رسم صورة سوريا الجديدة، وأنا أتطلع أن تكون بلدي حضناً آمناً للجميع بمختلف أطيافهم.. شعب مُوحد، قد تختلف آراؤهم ولكن تتفق رؤاهم، كما أتطلع أن أكون شريكة فاعلة في بناء مجتمع مدني يليق بنا كسوريين، يحكمنا القانون، وتُضمن فيه الحريات، يكون الآخر فيه شريكاً حقيقياً في البناء، فلا يمكن أن نبني وطناً، ونعزز المواطنة فيه، إلا من خلال الشراكة الحقيقية بين الجميع، وأن يكون للشباب والمرأة الدور الفاعل المؤثر وأن يكونوا أسيادَ المشهدِ في المرحلة القادمة. كلي أمل أن نطوي صفحة الماضي، متجاوزين كل الخلافات، وأن نتعلم من أخطاء الماضي، لتكون سُلماً لنا لبناء سوريا الجديدة. سوريا التي أحلم وتحلمون أن تكون. عاشت سوريا، حرة عزيزة كريمة'.
نداء حاج صالح - سيدة أعمال:
'أهل طرطوس أطياف متنوعة، وغايتنا الحفاظ على الوحدة والمحبة والألفة بينهم، لتستمر من جيل إلى جيل كما تربينا عليها. الأساس حالياً في مبدأ الحرية هو حرية الرأي والتعبير والمعتقد، والعدالة الاجتماعية، ودولة القانون. والأهم من ذلك الحفاظ على الطبيعة الاجتماعية، خصوصاً فيما يتعلق بأهمية دور المرأة ومشاركتها في صنع القرار. فالمجتمع الذي يُقصي المرأة عن دوره الأساسي في البناء والتنمية هو مجتمع أعرج وناقص. العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يضمن الحقوق للجميع؛ عقد مدني لا توجد فيه أقليات أو أكثريات، الجميع سوريون بالمرتبة نفسها. في هذه المرحلة، طرطوس هي الحلقة الأضعف، لكنها نقطة محورية لا يجب أن تُهمل لعدة أسباب: أولاً، التنوع الفكري والاجتماعي والتعايش الموجود بيننا، وهو نموذج فريد غير متوفر بهذه الصورة في بقية المحافظات السورية، مما يجعل طرطوس مثالاً حيّاً يمكن أن تُطبَّق فيه هذه الأفكار. ثانياً، موقعها الجغرافي، ووجود المرفأ، وأهمية التجارة البحرية الكبيرة بالنسبة لأهل المنطقة اقتصادياً. في المستقبل، الأمل أن تؤخذ هذه النقاط الأساسية بعين الاعتبار بشكل جدي وموضوعي، وأن يُعمل على إدخال المنطقة في المنظومة الاقتصادية بشكل فعال. يمكنني أن أتحدث عن نفسي: فأنا أعمل في مجال التجارة والنقل البحري منذ أكثر من ثلاثين عاماً بموقع الريادة، وهو كما تعلمون مجال يغلب عليه الطابع الذكوري. لذلك، ليس من المقبول اليوم، وبعد حصولنا على حريتنا وخلاصنا من الظلم، أن يعود دور المرأة الريادي إلى الوراء. السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تعمل بالتجارة عندما تزوجها الرسول الكريم وكان للمرأة دور فعال الى جانب الرجل. أعتقد ان الوطن بحاجة الى جميع الفئات والأطياف ليعملوا يداً بيد لبناء سوريا الجديدة الحرة المستقلة'.
علي سليمان - نحّات
نحن (الحراك المدني في طرطوس) امتداد للثورة السلمية السورية، تجمعنا لنشكل قوة مدنية تسهم في التحول الحاصل في سوريا اليوم نحو دولة مدنية ديمقراطية تحقق العدالة والمساواة لجميع مواطنيها دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس، ومن أجل تحقيق العدالة الانتقالية وفق شرعة حقوق الإنسان، وبإشراف محكمة العدل الدولية. وحركتنا جزء من قوى المجتمع المدني لحماية السلم الأهلي، والعيش المشترك ومع بقية القوى المدنية نريد أن نكون من المحاورين للإدارة السورية الجديدة لنوصل صوت القوى المدنية، ونسهم في بناء مستقبل بلدنا وبداية المشاركة بصياغة الدستور وصولاً إلى انتخابات شفافة تحت رعاية دولية.
لقد تمت صياغة مبادرة العمل المدني بطرطوس من قبل 25 شخصية بالاجتماع التأسيسي الأول كان معنا على الأقل عشرة شخصيات طرطوسية من الذين اعتقلهم النظام المخلوع، وقررنا إنشاء هذه المبادرة لينضم إليها مئات الشخصيات الطرطوسية، وغيرها من سكان طرطوس، وأعلنا عن الاجتماع الثاني في مقهى على الكورنيش البحري يدعى مقهى نخلة التنين، وتفاجأنا بحضور أكثر من مئتي شخص. اجتمعنا وآثرنا أن يتصدر المشهد الشباب. تحت عنوان سوريا حرة مستقلة مدنية ديمقراطية لا إقصاء فيها لأحد'.
اليوم، أدرك الناس أن الثورة هي ثورة كل السوريين، ولم يعد بإمكان أحد أن يقصي أحد. هذا ما يبدو عليه الوضع الآن. وسقطت اللغة التي واربت الحقائق 60 سنة، وكأنها لم تكن، وسقطت معها أقنعة كثيرة، ومقولات وشعارات وتماثيل ومناهج مدرسية. كما يبدد النور الظلام، بددت شمس الحرية ظلام الاستبداد.