اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٢٤ كانون الثاني ٢٠٢٥
السجونُ الوجهُ الأكثرُ بشاعةً للسلطةِ، وتجسيدٌ وحشيٌّ لعطب الجسدِ وترويضِ الفكرِ. والمعتقَلاتُ السورية، بما تحمله من فظائعَ تفوقُ التصوُّرَ، إحدى أشدّ أوجهِ هذه البشاعةِ تطرُّفًا. لكنَّ هذا القبحَ، رغمَ فرادتِهِ، ليس معزولًا في زمانِهِ أو مكانِهِ، فقد شهدَ التاريخُ الكثيرَ من السجونِ المشابهةِ التي تحكُمُ بالمهانةِ والموتِ على كلِّ مَن يتجرَّأُ معارضةَ الطغاةِ. السينما أعادتْ تفكيكَ هذه الفضاءاتِ بطرقٍ لا تكتفي بتأريخِ هذا القبحِ أو تأطيرِهِ، بل تسبرُ أغوارَهُ إلى التفكيرِ في سؤالٍ جوهريٍّ: ما الذي تكشفُه الجدرانُ المغلقةُ عن طبيعةِ الأنظمةِ التي شيَّدتْها؟ كيف تظلُّ ذاكرةُ السجنِ تُعذِّبُ الناجينَ حتّى بعدَ سقوطِ الطغيانِ وفتحِ الأبوابِ؟ من بينِ هذهِ التجارب يبرزُ فيلمُ (The Railway Man) رجل السكةِ الحديدية، عملٌ سينمائيٌّ يُحيلُ السجنَ من مكانٍ محسوسٍ إلى حالةٍ ذهنيةٍ مستدامة. مستوحًى من السيرةِ الذاتيةِ (Eric Lomax) لإريك لوماكس، يلتقطُ الفيلمُ بذكاءٍ العلاقةَ بين القمعِ والذاكرةِ الفرديةِ من جهةٍ، وبين مفهومِ العدالةِ ومساراتِ الخلاصِ من جهةٍ أخرى، ما يفتحُ البابَ لمقارنةٍ حيَّةٍ مع المآسي التي عايشها الناجونَ من السجونِ السوريةِ، وما تطرحهُ من أسئلةٍ أكثرَ تعقيدًا حول المُساءلةِ الإنسانيةِ وآفاقِ التحرر.
نافذة على جحيم المعتقلين
يفتحُ فيلمُ رجل السكةِ الحديدية نافذةً على جحيمِ المعتقلين الذين جُرِّدوا من إنسانيتهم أثناءَ بناءِ سكةِ الموتِ. بأجسادٍ منهكةٍ تتهاوى تحتَ وطأةِ الجوعِ والتعذيبِ، وبضرباتِ مطارقَ يترددُ صداها كأصواتٍ جهنمية، نسجَ الفيلمُ لوحةً مرعبةً للإذلالِ الجماعيِّ، حيثُ تحوَّلَ البشرُ إلى أدواتٍ في آلةٍ وحشيةٍ تُدارُ بلا رحمة لتسحقَ ما تبقَّى فيهم من إنسانية. كلُّ قضيبٍ حديديٍّ يُغرسُ في الأرضِ جرحٌ آخرُ يُنقشُ في خارطةِ الألمِ المرسومةِ بدقةٍ لابتلاعِ الحياةِ واغتيالِ الروحِ. أما سجنُ أريك قام بدوره وهو شاب (Jeremy Irvine) تجسيدٌ حيٌّ للقهرِ، وشاهدٌ آخرُ على المعاناةِ، أصواتُ تعذيبهِ بخراطيمِ المياهِ ظلالٌ للموتِ البطيءِ. سكةُ الحديدِ بينَ تايلاند وميانمار تحوَّلت إلى معلمٍ بارزٍ يقصده السواحُ، في حين أصبحَ السجنُ متحفًا تذكاريًّا، اكتسبَ قيمتهُ من الأرواحِ التي زهقتْ فيه، لم يكن هذا التحولُ أرشفةً للتاريخِ بقدرِ ما هو استعادة لروحِ الحقيقةِ. في سوريا، المعتقلاتُ شاهدةٌ على مرحلةٍ تاريخيةٍ من العنفِ الممنهجِ الذي مارسه نظامُ الأسدِ الأبِ والابنِ، ومتاحفُ تعرضُ أبشعَ صورِ القمعِ والاضطهادِ. الزنازينُ التي امتلأتْ بصراخِ المعذبين، وأرواحهم الممزقةِ، وثيقةٌ تروي للأجيالِ تاريخَ إرثٍ أسودَ عكستهُ وحشيةُ نظامٍ لم يترك زاويةً دونَ أن يُوسِمَها بالقهرِ، وظَّفَ الألمَ سلاحًا لإخضاعِ شعبٍ بأكملهِ. جدرانُ تلكَ السجونِ، مثلَ (سكةِ الموتِ)، يجبُ أن تبقى شاهدًا عصيًا على النسيانِ، تروي حكاياتِ القهرِ في زمنٍ ما زال السوريون فيه يبحثون عن العدالةِ، ويتساءلون حول عدالةِ التاريخِ وقدرةِ الإنسانِ على مواجهةِ ماضيه المريرِ وإعادةِ تشكيلِ حاضره.
يستحضرُ الفيلمُ ثقلَ الذاكرةِ بوصفها السجن الأبديَّ، سجنًا لا جدرانَ له، ولا مفاتيحَ لأبوابه، تتلبّسُ إريك لومس (Colin Firth) معاناةً لا تنتهي مع تحرُّره الجسديِّ من معتقلِ الجيشِ اليابانيِّ في الحربِ العالميةِ الثانية. رجلٌ محاصرٌ بذاكرةٍ تبضُّ بأطيافِ الماضي، تلكَ الذاكرةِ التي لا ينقذها الزمنُ، بل يبقيها شاهدةً عليه. التحرُّرُ الماديُّ في هذا السياقِ ليس سوى وهمٍ، فالسجنُ الحقيقيُّ يكمنُ في العقلِ، في ندوبِ روحٍ تستعصي على الشفاء. يعكسُ الفيلمُ بفلسفةٍ عميقةٍ الصدمةَ النفسيةَ كجغرافيا لا تُغادرُ من يخطوها، فتلكَ الجدرانُ دفاترٌ حيَّةٍ خُطَّتْ عليها مآسيه بأظافر مقهورة، وسُقيتْ بدموعٍ بائسةٍ، وهو الآن معلقٌ بين ماضٍ متخمٍ بالعذاباتِ وحاضرٍ لا يملكُ إلا استعادتها. هذه الذاكرةُ تحاكي إلى حدٍ بعيدٍ ما تختزنه السجونُ السوريةُ في جدرانها. فجدران الزنازين مرايا لأرواحٍ لا تزال تحومُ هناك، أرشيفٌ للصرخاتِ المخنوقةِ والآمالِ المجهضةِ. كلُّ نقشٍ، كلُّ خدشٍ، كلُّ بقعةٍ، تحكي قصةَ مقاومةٍ وصمودٍ، وتشهدُ على ماضٍ لا ينبغي أن يُنسى. فكم من معتقلٍ سوريٍّ خرجَ وما زالَ عالقًا هناك في تفاصيلِ المكانِ؟ من المؤلمِ أن تعبثَ بتلك الجدرانِ وتطليها بهدفِ تجميلها، فأنتَ لا تطمسُ معالمَ الألمِ فقط، بل تقطعُ حبلَ السردِ، وتكسرُ رابطَ العدالةِ مع التاريخ. هي جريمةٌ أخرى تضافُ إلى سجلِّ الظلمِ، واغتيالٌ ثانٍ للضحايا، ومحوٌ لحقهم في أن تُحكى مآسيهم.
تتجسّد المواجهة بين إريك لومكس وسجّانه السابق ناغاسيHiroyuki Sanada كملحمة نفسيّة، تكشف تعقيدات الروح البشريّة. إريك، الذي ظلّ لعقودٍ محاصرًا بآلامه، يعود إلى المكان الذي شهد على أسوأ لحظات عذابه، تفاصيل المكان بماضيه الوحشي محفورة في ذاكرته. ناغاسي، الضابط الذي أشرف على تعذيبه، يقف أمامه الآن في هيئةٍ مغايرةٍ، رجلٍ مسنٍّ، متواضعٍ، ونادمٍ، بعدما تحوّل من جلّادٍ إلى مرشدٍ سياحيٍّ في موقعِ الجحيمِ ذاته. يواجه إريك تناقضًا بين الذكرى المأساويّة والحاضر المتغيّر، حيث يلتقي من كان يومًا مصدرَ آلامه، إنّها لحظةُ الحسابِ المنتظَرة، ينحني الجلّاد أمام إريك مدركًا أنّ لا مفرّ من مواجهةِ ثقلِ ماضيه.
إريك المثقل بطوفانٍ من المشاعر المتضاربة، يواجه ناغاسي بسؤالٍ مباشرٍ وقاسٍ: 'هل تعرفني؟' يسودُ الصمتُ، حيث يبدأُ ناغاسي بإدراكِ هويةِ من يقف أمامه. ارتباكُ صوتهِ واعترافه بأنه يتذكّرُ كلَّ شيءٍ يزيدُ حدةَ التوترِ. هو لا ينكرُ أفعالهِ، بل يعترفُ بدورهِ في معاناةِ إريك، وبأنّه عاشَ حياته مثقلًا بالذنبِ، محاولًا التكفيرَ عن أفعالهِ من خلالِ عمله في المتحف. يصلُ غضبُ إريك ذروتهُ ويمسكُ السكينَ مهدّدًا إيّاه بالقتل.
إنّ واقع السوريين اليومَ يتقاطعُ مع تلك المأساةِ الإنسانيةِ التي عاشها إريك، فالمعتقلون هم بحاجةٍ لمواجهةِ عذاباتِ الماضي. ولكن الفارقُ أنَّ جلاديهم، الذين قتلوا الأملَ في قلوبهم، لم يعودوا لتقديمِ الحساب. والمصالحةُ التي يُنتظرُ تحقيقها، تبقى حبيسة الأفقِ الغائمِ، في غيابِ العدالةِ وانتشارِ الإفلاتِ من العقاب.
إنّ صراعَ إريك مع ذاتهِ أشدّ ضراوةً من مواجهتهِ مع خصمهِ. الماضي والحاضرُ يتداخلانِ، تنهالُ عليه مشاهدُ التعذيبِ كأشباحٍ حيّةٍ، لكنه يدركُ أن الانتقامَ لن يشفيه، ولن يعيدَ له ما فقده، فيُلقي السكينَ جانبًا، ويواجهُ جلّاده بالكلمات. يسأله عن الدافعِ وراءَ الوحشيّة، وعن الإنسانِ الذي كان مختبئًا وراءَ القسوةِ. ناغاسي، في لحظةِ ندمٍ صادقةٍ، يوضّحُ أنّه كان ضحيّةً لنظامٍ عسكريٍّ لا يرحمُ، وأنّه مُجبرٌ على تنفيذِ الأوامرِ. اعترافُه يضعُ إريك أمامَ حقيقةٍ أن السجّانَ نفسهُ كان أسيرًا، وإن اختلفت قيودهُ. بعد هذه المواجهةِ المشحونةِ بمشاعر متضاربة، يختارُ إريك مسامحةَ ناغاسي. ليس نكرانًا للألمِ، بل تحريرًا للنفسِ من حملِ الكراهيةِ. في مشهدٍ مؤثّرٍ، يُصافحُ إريك جلّاده، ويتركُ الماضي وراءه، يغادرُ تايلاند وقد أدركَ أن مواجهةَ الألمِ، مهما بلغت قسوته، هي الطريق الوحيدُ لاستعادةِ ذاتهِ.
تشابه مع مآسي السوريين
يبرزُ هنا التشابهُ المؤلمُ بين ما عاشه إريك لوماكس في رجلِ السكةِ الحديدية وبين مآسي عشراتِ الآلافِ من المعتقلين السوريين، ولكنّهم حُرموا من مواجهةِ تفاصيلِ الأماكنِ التي احتُجزوا فيها. فكما سعى إريك لتحريرِ نفسهِ من عبءِ الماضي بتلك المواجهةِ مع سجنه وجلادهِ، فإنّ المعتقلين السوريين يعيشون واقعًا مختلفًا، واقعًا قاسيًا يخبئُ في طيّاته محاولة تجميل القبحِ بإخفاءِ تفاصيله. إنّ واقع السوريين اليومَ يتقاطعُ مع تلك المأساةِ الإنسانيةِ التي عاشها إريك، فالمعتقلون هم بحاجةٍ لمواجهةِ عذاباتِ الماضي. ولكن الفارقُ أنَّ جلاديهم، الذين قتلوا الأملَ في قلوبهم، لم يعودوا لتقديمِ الحساب. والمصالحةُ التي يُنتظرُ تحقيقها، تبقى حبيسة الأفقِ الغائمِ، في غيابِ العدالةِ وانتشارِ الإفلاتِ من العقاب.
لقد تحقِّقَ التعافي لبطلِ الفيلمِ عبرَ مواجهةِ الماضي بكلِّ مراراته، حيثُ اختارَ إريك المسامحةَ بدلًا من الانتقامِ. العدالةُ، في هذا السياقِ، لا تتجسَّدُ في العقابِ، بل في قدرةِ الإنسانِ على تحطيمِ قيودِ ماضيه واختيارِ الرحمةِ طريقًا للتحرُّرِ. العلاقةُ بينَ الجلادِ والضحيةِ تحوَّلت إلى صداقةٍ حقيقيةٍ استمرت حتى وفاةِ ناغاسي في 2011، ما يكشفُ قدرةَ الاختيارِ البشريِّ على تخطِّي الألمِ حتى عبرَ التغلبِ على رغباتِ الانتقامِ. لم يقتصرْ دورُ باتريشيا (Nicole Kidman)، على تقديمِ الدعمِ العاطفيِّ، بل بسعيها الحثيثِ لفهمِ ماضي زوجها الذي لا يزالُ عالقًا في ذاكرته. حبُّها هو دعوةٌ للمواجهةِ، وليس للهروبِ من الحقيقةِ، فتحتْ قلبَها لرؤيةِ الألمِ واحتوائهِ، فكانت محفِّزًا له لمواجهةِ ماضيه المؤلمِ. الفيلمُ يوضِّحُ أنَّ تحقيقَ العدالةِ والتعافي يتعدَّيان الحقَّ الشخصيَّ للضحيةِ ليشملا الشفاءَ الجماعيَّ. مثلما حقَّقَ إريكُ السلامَ عبرَ تصالحه مع جلادهِ، فقد أهداهُ لباتريشيا التي ظلتْ مشدودةً إلى ماضي زوجها كما لو كان جزءًا من ماضيها الشخصيِّ. إذًا، الأسرُ السوريةُ التي لا تزالُ تعاني من مآسي المعتقلينَ وألم الماضي، لن تجدَ الراحةَ إلا بتحقيقِ العدالةِ التي تخرجها من دائرةِ النسيانِ إلى الضوءِ، فهذه العدالةُ لا يحتاجها الضحايا فقط، لأنها عمليةٌ تشاركيةٌ تجمع بين الحبِّ والمواجهةِ، والمصالحةِ، وتدعو إلى تحريرِ أرواحِ جميعِ من عاشوا مآسي لم تنكشفْ تفاصيلُها. لنصلَ إلى البوابةِ التي يعبرُ من خلالها الجميعُ نحو الشفاء.
رجل السكة الحديدية عملٌ سينمائيّ من إخراج (Jonathan Teplitzky) يحمل رؤية بليغة تكشف عن قدرة الإنسان على مواجهة الماضي بألمه وتشوّهاته، متخطيًّا حدود الانتقام إلى مصالحة معقدة مع الذات والآخر. مسلطًا الضوء على هشاشة الروح البشرية وقوتها في آن واحد. إنه تجربة ملهمة تُبرز كيف يمكن للألم أن يتحوّلَ إلى قوّة دافعة نحو التغيير وبناء إنسانية أكثر تسامحًا وعمقًا.