اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٠ تموز ٢٠٢٥
توجَّه انتقادات عدة إلى آلية العدالة الانتقالية في سوريا كونها تشمل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، من دون الإشارة بوضوح إلى الجماعات المسلحة الأخرى في سوريا، وهنا يظهر مفهوم الضحية المدنيّة، أولئك الذين لم يُجبر الضرر عنهم زمن نظام الأسد، والآن يواجهون أسئلة في ظل السلطات الجديدة بخصوص حقهم بجبر الضرر والتقاضي ونيل الاعتراف.
عام 2013 بعد سيطرة نظام الأسد على عدرا العمالية في ريف دمشق، بعد الهجمات التي شنتها فصائل مسلحة، تمكّن مازن (اسم مستعار)، بعد نحو شهرين، من نبش القبر حيث دفن الجيران على عجل أخته وزوجها، ونقل الجثتين لدفنهما في مسقط رأسهما، شهد العام ذاته أيضاً معارك بين فصائل إسلامية مسلحة وجيش النظام في ريف اللاذقية. حينها، قتل والد هدى (اسم مستعار)، لكن المأساة لم تنته هنا، إذ خطفت/ احتجزت الفصائل المسلحة هدى لنحو 9 أشهر قبل إطلاق سراحها، أما أمها وأخوها فأطلق سراحهما بعد نحو 3 سنوات ونصف السنة.
المشترك بين الحادثتين وغيرهما من الحوادث المشابهة هو غياب اعتراف نظام الأسد بالضحايا المدنيين، ونقصد هنا، الاعتراف بهم كـ'شهداء'، أو تقديم تعويضات وجبر ضرر من تعرض للأذى. حكايات المدنيين هذه (إن استثنينا 'الشهداء العسكريين' من جيش النظام) عادت الى السطح حين لم تحتفل سوريا الجديدة هذا العام بعيد الشهداء، الذي يوافق في 6 أيار/ مايو من كلّ عام، إلغاء/ تجاهل هذه العطلة الوطنيّة، المنسوبة إلى من أعدموا في ساحة المرجة عام 1916 بأمر من جمال باشا حاكم بلاد الشام حينها، أثار جدلاً في سوريا، فغياب الاحتفال والعطلة الرسميّة، قوبل بتفسيرات متعددة، كمحاولة تفادي إغضاب تركيا، أو اعتباره جزءاً من ميراث نظام الأسد!
بعيداً عن 'عيد الشهداء'، علاقة السلطة الجديدة في دمشق مع مفهوم 'الشهيد' بمعناه البيروقراطي والإداري لا الدينيّ، كانت سريعة، إذ صدرت قرارات متتالية عدة لإعادة تعريف 'الشهيد'، أي قتلى ما قبل السقوط من عسكريين ومدنيين، فإلى جانب الاحتفالات والتكريمات، أُلغيت جميع الحسومات المقررة لذوي الشهــداء المقبولين في الجامعات السورية العامة والخاصة اعتباراً من العام 2025/2026، إلى جانب فصل أعداد كبيرة من أبناء 'شهداء'/ قتلى النظام السوري الذين حصلوا على عقود مؤقتة، والذين تسربت حكايات عن مصائرهم بعد الفصل.
'الشهيد' في عهد الأسدين
واحد من القوانين التي صدرت في سوريا في ظل نظام الأسد بخصوص 'الشهداء' من غير العسكريّين، كان إثر مواجهة مع تمرد داخلي، لا حرب خارجيّة، ويعود إلى عام 1980، إذ نصت المادة الأولى منه: 'يعتبر كل من يستشهد بيد عصابة الإخوان المسلمين المسلحة اغتيالاً أو مواجهة أو بسببهما من شهداء الوطن والأمة العربية'، ويخصَّص معاش تقاعدي لـ'عيال الشهيد'، الكلمة التي تشمل: 'العسكريين أو من موظفي ومستخدمي أو عمال الدولة أو القطاع العام أو المشترك أو من العاملين في حزب البعث العربي الاشتراكي أو المنظمات الشعبية'، وتشمل صفة الشهيد 'المصاب بالعجز الكليّ' و من تعرض لـ'الاغتيال'.
في عهد الأسد الابن تعددت القوانين، مثلاً صدر المرسوم التشريعي رقم /20/ لعام 2001 بمنح بطاقة الشرف لزوجات الشهداء، ومع اندلاع الثورة في سوريا صدر القانون رقم /36/ لعام 2014 القاضي بحجز نسبة 50 بالمئة لـ'ذوي الشهداء ومن في حكمهم من الشواغر المراد ملؤها بموجب المسابقات والاختبارات التي تجريها الجهات العامة'، وزيادة مقاعد أبناء الشهداء في الجامعات، والإعفاء من رخص البناء، وربما أبرزها توفية الشهداء العسكرين المختفين بعد 4 أعوام من 'اختفائهم'.
هذه القوانين والمراسيم كلها تشمل 'العسكريين' من جنود النظام السوري وأسرهم، لكن القانون رقم 36 لعام 2014 يضيف فئات جديدة إلى جانب تعريف الشهيد العسكريّ.
أضاف قانون عام 2014 مفهوم 'الشهيد المدنيّ'، وهو 'كل مواطن عربي سوري، أو من في حكمه، يعمل بإمرة الجيش العربي السوري'، وهذا يشمل في العادة الموظفين في المؤسسات العسكرية، وهناك 'الشهيد العامل أو الموظف'، وهو 'العامل أو الموظف لدى الدولة الذي استُشهد أثناء العمل أو بسببه'، ويشمل التصنيف أن يكون الشخص قد قتل 'خلال الحرب أو العمليات الإرهابية، أو بسبب العصابات الإرهابية المسلحة، اغتيالاً أو مواجهة، أو نتيجة الأعمال الإرهابية التي تنفذها تلك العصابات'، ويشمل أيضاً من المدنيين العاملين في الدولة 'المصابون بحالة العجز التام'الذين تعرضوا للإصابة بالشروط السابقة ذاتها.
هذه الفئة من السوريين 'الشهداء العسكريين' وأسرهم لم توفر أسماء الأسد فرصة لـ'استثمارهم' لتلميع صورتها، فقبل سقوط النظام بأشهر عدة استقبلت عائلة 'شهيد،' وقد أكدت سابقاً على لسان زوجها أنهم (أي الشهداء وأسرهم) 'سيبقون دائماً في مقدمة الأولويات وفي قلوب السوريين جميعاً وعقولهم'، وشملت هذه الزيارات 'شهداء مدنيين'، إذ زارت الأسد عائلة المصور عبد الغني أبو شعر الذي تصفه صفحة رئاسة الجمهورية بـ'شهيد الواجب'، لكن ضحايا مدنيين كثراً ينطبق عليهم وصف 'الشهيد المدني' لم ينالوا هذه الصفة الإدارية، ولم يتم حتى الاستفادة منهم في تلميع صورة النظام.
اليوم، مع تأسيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، وقبلها التركيز على العدالة الانتقالية في الإعلان الدستوري، توجه الانتقادات إلى آلية العدالة الانتقالية نفسها كونها تشمل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، من دون الإشارة بوضوح إلى الجماعات المسلحة الأخرى التي كانت تقاتل النظام وبعضها البعض خلال سنوات الثورة. وهنا يظهر مفهوم الضحية المدنيّة الذي لم يشارك في أعمال قتالية، بعضهم/ن مجرد موظفين في مؤسسات الدولة غير العسكرية، وبعضهم مدنيون وجدوا في المكان والزمان الخاطئين، هؤلاء لم يجبر الضرر عنهم زمن نظام الأسد، والآن يواجهون أسئلة وتعقيدات لا إجابة واضحة عنها بخصوص حقهم بجبر الضرر والتقاضي ونيل الاعتراف.
الخطف و'الشهادة'
لم يتوقف الخطف في مناطق سوريا المتفرقة منذ عام 2011، بل يمكن القول إن الإضاءة الإعلامية عليه اختلفت، لكنها بلغت أحياناً حد الاتهام بـ'التواطؤ في ارتكاب جريمة ضد الإنسانيّة'، التهمة الموجهة إلى شركة لافارج الفرنسية للأسمنت عام 2014، التي تبين تعاملها مع تنظيم داعش، ودفع فدية للتنظيم مقابل الإفراج عن عمال مُختطفين.
أحد الأطراف التي مارست الخطف حينها كان تنظيم داعش حين سيطرته على أجزاء من المنطقة الشرقية في سوريا، واحدة من حوادث الخطف هذه تعرض لها علي (اسم مستعار)، مساعد مهندس نفط، من مواليد 1974، إذ تخبرنا أسرته أنه كان يعمل في حقل الهيل في تدمر، الذي تعرض لهجوم من تنظيم داعش عام 2015 وسيطر على المنطقة، إلى حين استعادها النظام عام 2017.
تخبرنا أسرة علي أنه اختفى عام 2015 أثناء هجوم داعش، ومع فقدان الأمل بعودته، بدأت الأسرة بعملية حصر الإرث، ولا بد من تثبيت 'وفاة' علي رسمياً، لكن العملية واجهت تعقيدات أبرزها، عدم وجود جثة، فاضطر الأهل للانتظار أكثر من 4 سنوات، حتى يتمكنوا من توفيته في سجلات النفوس عام 2019.
حسب قانون عام 2014، المفترض اعتبار علي شهيداً مدنيّاً، لكن أسرته فشلت في الحصول على هذه الوضعية الإدارية والقانونيّة، واتضح الأمر أثناء معاملة حصر الإرث، إذ اكتشفت الأسرة أنه ليس مسجلاً كـ'شهيد': 'ولم يحصل أبناؤه سوى على تعويضات راتب فقط، أي لم يتم اعتباره شهيداً ولم تستفد ابنته من مفاضلة ذوي الشهداء، وحتى لاحقاً لم يستفيدوا من عقود العمل الخاصة بذوي الشهداء، فلم يتم اعتباره كشهيد'.
أسرة عليّ ما زالت تحاول تحديد مصيره، هل كان أسيراً أم قُتل مباشرةً، يخبرنا أخو زوجته :'لا نريد تعويضاً مباشراً، وفي الوقت ذاته، لا نريد أن يقال عن علي إنه من فلول النظام أو فطيسة'.
من 'الشهيد' في عدرا العمالية؟
شهدت عدرا العمالية في ريف دمشق عام 2013 عملية يُتهم بتنفيذها كل من جبهة النصرة وجيش الإسلام، إذ حوصرت المنطقة ثم حاصرها جيش نظام الأسد أيضاً لاستعادة السيطرة، وأُجلي الآلاف من المنطقة أُثناء الاشتباكات، ووفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية: 'اختطفت جبهة النصرة وجيش الإسلام مئات المدنيين' ووُضع بعضهم في أقفاص واستُعرضوا علناً لاحقاً.
الهجمة التي وُصفت بـ'الطائفية' حينها راح ضحيتها العشرات، سواء على يد فصائل المعارضة أو جيش النظام السوري، وأفادت رويترز حينها في حصيلة أوليّة بأن 'الجماعات الإسلاميّة قتلت 15 مدنياً من العلويين والدروز'، وتختلف أرقام القتلى حسب كلّ جهة، وتصل إلى 50 قتيلاً ولا عدد ثابت إلى الآن.
يخبرنا مازن (اسم مستعار) أن أخته وزوجها (موظفان مدنيان)، قُتلا حينها، ودفنهما الجيران حيث قتلا، ويضيف: 'بعدها، جمعت الدولة الجثث الباقية ودفنتها في مقبرة جماعية'، وحين فتح النظام طريقاً للمدنيين بعد السيطرة على المنطقة، توجه علي إلى حيث دُفنت أخته وزوجها. لم يُسمح له بداية بنبش الجثتين ونقلهما، فقد انتظر أكثر من شهرين حتى تمكن من دفنهما في قريتهما.
يقول مازن إن نظام الأسد لم يعتبر الاثنين 'شهيدين مدنيين'، كون المرسوم الذي يحدد هذه الفئة صدر عام 2014، يخبرنا مازن :'حاولت الحصول على وثيقة تثبت أنهم شهداء، فلم أحصل إلا على ورقة تسهل الأمور فقط ولا ورقة تعطي امتيازات الشهيد'.
ينتظر مازن وأسرته اعترافاً بأن شقيقته وزوجها قتلا بغير حق، ويضيف:'نريد الاعتراف بمقتلهما من السلطة الجديدة، لا نريد الثأر، نريد الإنصاف ومحاسبة المتورطين، لأن الدم يجر دماً، والعدالة مطلب للجميع'.
'غزوة' أم معركة؟
عام 2013 شهد ريف اللاذقية معركة بين المعارضة المسلحة وجيش النظام، اختلف اسم هذه المعركة بين الفصائل حينها، إذ سمّاها الجيش الحر 'عملية تحرير الساحل'، في حين أطلقت عليها الفصائل الجهاديّة اسم 'معركة أحفاد عائشة'، ومن دون تحديد مصدر الانتهاكات وثقت 'هيومان رايتس ووتش' إعدام قوات المعارضة وقتلها بشكل غير مشروع لما لا يقل عن 67 شخصاً من بين المدنيين الـ 190 المذكورين، حتى على رغم أنهم كانوا غير مسلّحين ويحاولون الفرار'.
أثناء تلك المعارك التي امتدت نحو 20 يوماً، تخبرنا هدى (اسم وهمي)، من قرية في ريف اللاذقية، أن والدها، الذي يعمل مزارعاً خرج ليتفقد الوضع في القرية الساعة السابعة صباحاً، ومع ارتفاع أصوات التكبير وإطلاق الرصاص، بقيت العائلة في المنزل، لاحقاً خطفت هدى وأمها وأخوها بوصفهم 'الأسرى' لمبادلتهم مع النظام، والد هدى قُتل يومها.
بعد تعقيدات طويلة ومعارك ومفاوضات، أطلق سراح هدى التي تخبرنا: 'من توفي لم يعتبر شهيداً، لم أستطع الدخول في مفاضلة ذوي الشهداء ومن دون معونة أو حتى راتب وظيفي أو تعامل مميز أو عقد عمل'.
احتُجزت هدى لنحو 9 أشهر قبل أن يُطلق سراحها، من دون أن تعرف إن حصلت مبادلة أو لا، لاحقاً أطلق سراح شقيقها ووالدتها بعد 3 سنوات ونصف السنة، تضيف هدى 'وعد نظام الأسد بترميم منازل المتضررين والضحايا في ريف اللاذقية ولكن ذلك لم يحصل؛ ولم يحصلوا على مأوى ليسكنوا فيه'.
وصف 'الشهيد' لا ينطبق على والد هدى، حسب قانون 2014، لكنه ضحية، لم يجبر ضرر عائلته، الذين خطفوا بدورهم، من دون أي جبر للضرر من نظام الأسد، تقول هدى قائلةً: 'نريد الاعتراف بشهادة والدي، هو ليس قتيلاً أو فطيسةً، هو ضحية صراع، ولم يعتبره نظام الأسد شهيداً، نريد الاعتراف بكونه مدنياً قُتل بغير حق، وألا يتم اعتباره مسلحاً أو من الدفاع الوطني، أو شبيحاً للنظام'.
'حتى آخر مفقود'
تواصلنا مع هيئة العدالة الانتقالية، هيئة السلم الأهلي، ووزارة المالية، ولم نحصل على ردّ منهم بخصوص تصنيف 'الشهداء' وذويهم والإجراءات القانونية التي سيتم اتباعها بخصوص الضحايا و التعويضات وجبر الضرر.
قال المتحدث باسم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل: 'ستتعامل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مع المستفيدين من خدمات الرعاية التي تقدمها حسب الاختصاص من دون تمييز (دور الأيتام-دور الرعاية -مراكز الحماية). استلمت وزارة الشؤون الاجتماعية 'صندوق المعونة الاجتماعية' مفلساً، وتم إيقافه منذ استلام الوزارة بهدف إعادة الهيكلة'.
أما هيئة المختفين قسراً فأجابت:'أحد مبادئ الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا هو 'الشمولية'، فالهيئة اليوم معنية بالعمل للكشف عن مصير كل المفقودين على كامل أراضي الجمهورية العربية السورية، سواء من السوريين أو غيرهم، وأيضاً المفقودين السوريين خارج سوريا، من دون أن تكون للأمر حدود زمنية. لذلك، فإن الجهود التي ستبذلها الهيئة ستكرّس ضمن هذا الاتجاه، وبالتعاون مع الجهات المحلية والدولية كافة، الحكومية وغير الحكومية، المعنية بالأمر، وتحت سيادة الدولة السورية. وتتبنى الهيئة شعارها 'حتى آخر مفقود'، على أمل إمكانية تقديم إجابات شافية لكل العائلات السورية المكلومة'.
ماذا عنّ 'مركزيّة الضحية'؟
في ظل نظام الأسد، كانت هوية 'الضحية' من المدنيين وتصنيفها كـ'شهيد' مرتبطان بـصفة الشخص الوظيفية أولاً، والسياق الذي قضى فيه، أي يجب أن يكون الفاعل ممن تعتبرهم الدولة 'أعداء' سواء كنا نتحدث عن الإخوان المسلمين في عهد حافظ الأسد (قانون 1980) أو 'الجماعات الإرهابيّة' في عهد بشار الأسد (قانون عام 2014) وبعد سقوط النظام، جاء في الإعلان الدستوري مجموعة من النصوص المثيرة للاهتمام.
إحدى المواد التي تفتح باب التساؤلات المادة (18)، التي نصت على أن 'جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم'، وحسبما أشارت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، في تقريرها الصادر عام 2023، فإن كلاً من 'هيئة تحرير الشام' و'الجيش الوطني' و'قسد'، مارسوا 'التعذيب وسوء المعاملة في سوريا في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وبعض أشكال التعذيب وغيره من ممارسات الاحتجاز، بما في ذلك الاحتجاز التعسفي، والاحتجاز مع منع الاتصال، والأفعال التي ترقى إلى الاختفاء القسريّ'، ويضيف التقرير عبارة 'تُماثل ما ترتكبه القوات الحكوميّة'.
هناك أيضاً المادة (49) التي أحدثت 'هيئة لتحقيق العدالة الانتقاليّة' بناء على آليات 'مرتكزة على الضحايا' و 'تكريم الشهداء'، لكن أي شهداء منهم في ظل ما تشهده سوريا؟ منذ سقوط النظام، 'شهداء' الأمن العام هم من نالوا صفة 'ِشهيد' علناً، ولا نعلم إن كانت هناك تصنيفات جديدة لمن قتل قبل السقوط من مدنيين وعسكريين.
المادة (49) ذاتها تستثني 'جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية' وكل الجرائم التي ارتكبها النظام البائد' من مبدأ 'عدم رجعية القوانين'، ظاهر النص يوحي بأن الأفعال التي ارتكبها نظام الأسد، هي وحدها التي ستجرم بأثر رجعي.
ما يوحي بالسابق، هو السلوك العام للسلطة في دمشق والاعتقالات التي قامت واحتفت بها، والتي تمس رموز النظام البائد والعاملين في مؤسساته الأمنية والعسكرية، ما يشير إلى أن مسار العدالة الانتقالية محصور فقط في محاسبة عناصر نظام الأسد على ما ارتكبوه من انتهاكات وجرائم، علماً بعض الفصائل التي انضوت في وزارة الدفاع متهمة بارتكاب جرائم حرب !
يتضح توجّه مسار العدالة الانتقالية في المرسوم رقم (20) الذي أصدره رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، الذي ينص على تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التي 'تعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد، ومساءلة المسؤولين عنها ومحاسبتهم بالتنسيق مع الجهات المعنية وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية'.
تحدثنا مع أبي كرد علي، حقوقي سوري مقيم في بريطانيا، ومدير الوحدة القانونية في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، يقول كرد علي: 'بعد سقوط نظام الأسد وتبدل السلطة وتغير المعطيات السياسية والعسكرية، أصبح مفهوم الشهيد محل جدل كبير. فهل سيحافظ من حمل صفة الشهيد في ظل الأسد ووفق القانون السائد على هذه الصفة؟ أم ستجرده الدولة الجديدة منها وتمنحها لأشخاص آخرين وفق اعتبارات أخرى؟ وهل ستكون هناك امتيازات محددة أخرى للشهداء الذين اعترفت بهم الدولة الجديدة؟
يرى كرد علي أن لهذا السؤال أثراً كبيراً على مسار السلم الأهلي، ويطرح تساؤلات عدة منها: هل سيكون من المقبول لدى فئات من المجتمع سحب صفة الشهيد ممن قد منح هذه الصفة من قبل؟ وهل ستكون في ذلك إهانة أو وصمة لذويهم؟ في المقابل، هل سيكون من المقبول أن تُبقي الدولة الجديدة على هذه الصفة لمن قاتل ضدها؟ وكيف سيكون انعكاس ذلك اجتماعياً على الناس؟ ويختم كرد علي: 'لا توجد إجابات جاهزة عن هذه الأسئلة، ولكن أود الإشارة إلى خطورة التساهل في معالجة هذا الملف المعقد على الاستقرار المجتمعي والسلم الأهلي'.
يرى كرد علي أيضاً أن للسؤال عن 'الشهداء' ارتباطاً كبيراً بمسارات العدالة الانتقالية، وبخاصة تلك المتعلقة بالمحاسبة الجنائية وجبر الضرر. ففي حال أعادت الدولة الجديدة تعريف 'الشهيد' وفق اعتبارات مختلفة، فهل ستعطي الدولة امتيازاً لهؤلاء الشهداء في هذه المسارات بشكل انتقائي على حساب الضحايا وفق المفهوم الأشمل؟ هل سيكون لمن تعتبره الدولة شهيداً حظ أكثر وفرة في الوصول إلى العدالة وجبر الضرر؟ أم أن الدولة ستتبع في مسار العدالة الانتقالية نهجاً شاملاً مرتكزاً على 'الضحايا' كما ينص عليه القانون الدولي والإعلان الدستوري؟ لكن الإعلان الدستوري والمرسوم المشكل لهيئة العدالة الانتقالية يربطان هذا المسار فقط بضحايا جرائم الأسد، ويستثنيان ضحايا الأطراف الأخرى.
حسب القانون الدولي، يرتكز تعريف الضحايا فقط على عامل وحيد، وهو تعرض الشخص للضرر بسبب أفعال (أو إهمال) تشكل انتهاكاً للقوانين الجنائية المحلية، أو تُشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، أو انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي، وعند الاقتضاء ذويهم ومُعاليهم المباشرين والأشخاص الذين أصيبوا بضرر من جراء التدخل لمساعدة الضحايا في محنتهم أو لمنع وقوع الأذى عليهم. وهنا يقول كرد علي: 'من المهم التأكيد على أن اعتبار الشخص ضحية لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بهوية الجاني، كما لا يرتبط بما إذا كان مرتكب الفعل قد عُرف أو تمت محاكمته أو إدانته. كما أن اعتبار الشخص ضحية يجب ألا يرتكز على أي أسس تمييزية، كالعرق والجنس والرأي السياسي والدين والمعتقد أو أي أساس تمييزي آخر'.
يرى كرد علي أنه لو أرادت الدولة الجديدة أن تمضي قدماً في مسار العدالة الانتقالية، عليها أن تتبع نهجاً مرتكزاً فعلاً على الضحايا، الذين وجدوا أنفسهم في دائرة الصراع بين جهات مسلحة، ضحايا بعيداً عن المعاني الدينية والتصنيفات الإدارية لكلمة 'شهيد'، أي أن تضمن السلطات أن جميع من ينطبق عليهم مفهوم الضحية الأشمل وفق القانون الدولي لهم الوصول المتساوي والفعال إلى العدالة؛ والجبر الكافي والفعال والسريع عن الضرر الذي لحق بهم؛ والوصول إلى المعلومات ذات الصلة بالانتهاكات وآليات جبر الضرر. وحتى لو أرادت الدولة تكريم مقاتليها أو من قضى في العمليات العدائية، وهذا ممكن، لكن 'يجب ألا يكون ما سبق على حساب اعترافها الكامل بحقوق الضحايا وفق المفهوم الأشمل من دون تمييز، وإنصافها لهم، وتخليدها لذكراهم، وجبرها لضررهم'.