اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٣٠ أيلول ٢٠٢٥
قبل أشهر، وجدت نفسي ممنوعاً من النشر عند أي من المنابر الكثيرة التابعة لأحد هذه الكارتلات الغنية، وهو ما ينبغي أن يكون مدهشاً. إذ لماذا تمنع مؤسسة كبيرة كاتباً مستقلاً من النشر؟ أو تضع قائمة سوداء بكتاب ممنوعين، بصرف النظر عما يكتبون؟ هذا يظهر كم أن المؤسسات لا مؤسسات في مجالنا، إقطاعات أو ما يقاربها.
زار ياسين الحاج صالح سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وسنوات من المنفى، هو المعتقل السابق والكاتب في الشأن السوري، وزوج سميرة الخليل، الناشطة السياسية، التي اختفت قسراً في غوطة دمشق عام 2013. الحاج صالح الذي يكتب عن سوريا منذ سنوات، في هذا اللقاء مع الشاعر والصحافي علي جازو، يحدثنا عن سوريا بعد سقوط النظام، والثورة، والمأساة السورية، والصراعات الجديدة التي نشهدها في ظل الحكومة المؤقتة، هنا الجزء الثاني من حوار ياسين وجازو، الذي نُشر الجزء الأول منه في 'درج' بعنوان'التمرد واجب في كل وقت'.
نعيش في عالم سريع التحوّل. نحن جزء منه، غير أننا قليلون أو ضئيلون إزاءه. السرعة التي تشتّتنا والتي نغالبها بالصبر بنوع من التكيف العسير تشعرنا بالغربة. نتائج التحولات، بخاصة بالنسبة لنا كسوريين، بعيدة جداً عن المثال الذي نتمناه لحياتنا ومجتمعنا.
كيف يمكن لهذه الحالة التي هي مزيج من الرفض والمغالبة، من الغربة والضآلة، أن تثمر فكراً وكتابة لصيقة بنا، وفي الوقت ذاته متخطية حواجز الضعف؟
يتكرر لدي شعور ممض حين أفكر بشأننا ووزننا في العالم بأننا دراويش على باب الله، ولا نبدو سائرين باتجاه أوضاع عامة، فكرية وسياسية وأخلاقية، أفضل. موجودون في العالم، لكن وجودنا ضعيف، لا يكاد يساهم في صنع شيء من معاني العالم ومبانيه. وما أبنيه على هذا الشعور المتكرر هو نصح النفس بالتواضع والمثابرة على التعلم.
على أن سؤالك، يا عزيزي علي، يبدو تنويعة على سؤال النهضة: كيف ننهض ونسير إلى الأمام؟ كيف نقترب من متن العالم ولا نبقى عالقين على هوامشه؟ كيف التحرّر من الشعور بالضآلة، وكيف ننتج معانيَ لوجودنا تعني غيرنا كذلك، فترسخنا في العالم؟ كيف نتحرر من التبعية السياسية والدينية، ونتحرر؟ فإذا كان هذا صحيحاً، فإنه يتجاوز السوريين والسياسات السورية إلى مساحة تقاطع عربية- إسلامية- شرق أوسطية.
أفهم النهضة بوصفها فاعلية تحرر الروح، الانعتاق من القيود الداخلية والخارجية. وفي البال ثلاثة قيود كبيرة: قيد دولي يتمثل في تبعية المنطقة لقوى السيطرة الدولية وتدخلات خارجية عنيفة تعطل أو تضيق من فعل الديناميكيات الداخلية في بلدان الإقليم الشرق أوسطي. ويتكثف هذا القيد الدولي في إسرائيل، التي تجمع بين كونها استمراراً للشرط الاستعماري وبين كونها القوة الأشد رسوخاً في الشرق الأوسط، وتكاد تكون قدراً مقدوراً لهذه المنطقة ككل، بخاصة للفلسطينيين واليوم للسوريين.
وفي المقام الثاني قيد الطغيان الدولتي الذي يرد سكان أكثر هذه البلدان إلى رعايا تابعين، منتهكي الأجساد والأنفس. وفي المقام الثالث قيد ديني، يتمثل في حضور أشكال سياسية واجتماعية من السلطة الدينية التي تضيق بدورها على الأجساد والأنفس. ليست لدينا قصة كبيرة للحرية لأننا في هذه المنطقة من العالم، والعرب أكثر من غيرهم، أسرى تقييد ثلاثي لا يكاد يترك مجالاً للإبداع والروح، وبالتالي للحرية. أعتقد أن تحرّرنا يكمن في العملية الصراعية ضد هذه القيود الثلاثة، على مستوى الوعي بداية وتحرر المخيلة، مع الأمل بالتقدم في ضبط قوى ذلك الثالوث المنفلتة.
أقول العرب أكثر من غيرهم لأن القيد الديني قيّدهم أكثر من المسلمين الآخرين، بحكم أن الإسلام ملحمتهم التاريخية ولغته هي لغتهم، وإن كان لهم من رسالة اليوم فهي إعادة تشكيله على نحو يصلح من أحوالهم ويصلحهم مع العالم. ثم لأن التكثف الإسرائيلي للقيد الدولي يتوطن في قلب مجالهم الجغرافي ويضرب في طول هذا المجال وعرضه، ثم كذلك لأنه ليس هناك مثال سياسي عربي إيجابي، وما هناك من أمثلة هي بين سيئة وسيئة جداً. ولهذا يمكن اعتبار العرب البروليتاريا السياسية والأخلاقية في عالم اليوم، وتحررهم أكبر خدمة لقضية التحرر في عالم اليوم بالتالي.
هناك مضمّر في فكرة النهضة، هو أن ثقافتنا/ ثقافاتنا قابلة لأن تكون ثقافات إبداع وفكر وعلم، ثقافات ناهضة. السؤال: هل هذا صحيح؟ أنا أسلم بأنه صحيح. فإن كان كذلك، أيحدث النهوض بلغة واحدة أم بلغات متعددة؟ النهضة الأوربية هي أيضاً نهوض اللغات القومية. أترك المسألة معّلقة.
رأى الكاتب والمفكر الفرنسي موريس بلانشو أننا لا نكتب حسبما نكون، بل نكون حسبما نكتب. هل ترى أنت كذلك أن الكتابة تكوّننا أكثر من أنها تنقل ما نحن عليه، أن الكتابة خالقة عوالم جديدة على قدر أكثر من كونها متأثرة وخاضعة لعوالم قائمة!